اللغات المتاحة للكتاب Indonesia English

11 ــ باب المجاهدة

قال الله تعالىٰ: {وَٱلَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهۡدِيَنَّهُمۡ سُبُلَنَاۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَمَعَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ} [العنكبوت: 69]، وقال تعالىٰ: {وَٱعۡبُدۡ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأۡتِيَكَ ٱلۡيَقِينُ} [الحجر: 99] ، وقال تعالىٰ: {وَٱذۡكُرِ ٱسۡمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلۡ إِلَيۡهِ تَبۡتِيلٗا} [المزمل: 8] أي: انقطع إليه، وقال تعالىٰ: {فَمَن يَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٍ خَيۡرٗا يَرَهُۥ} [الزلزلة: 7] ، وقال تعالىٰ: {وَمَا تُقَدِّمُواْ لِأَنفُسِكُم مِّنۡ خَيۡرٖ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ هُوَ خَيۡرٗا وَأَعۡظَمَ أَجۡرٗاۚ} [المزمل: 20] ، وقال تعالىٰ: {وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡرٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِۦ عَلِيمٌ} [البقرة: 273]. والآيات في الباب كثيرة معلومة.

فائـدة:

المجاهدة: بذلُ الجهد في إصلاحِ العبدِ نفسَه، وإصلاحِ غيره.

ــ أمّا إصلاح العبد نفسه؛ فيكون بفعل المأمورات، وترك المنهيات. وسبيل ذلك العلم النافع، والعمل الصالح.

ــ وأمّا إصلاح العبد غيره؛ فيكون بالدعوة والبيان، مع الصبر على الأذىٰ.

وأمّا المعاندون والخارجون عَنِ الشريعة؛ فتكون مجاهدتهم بالسلاح والسنان لكفِّ شرهم، وزجر أمثالهم.

هداية الآيات:

1) الحثّ عَلىٰ سلوك طريق المجاهدة؛ لأن الهداية مع أهل المجاهدة {وَٱلَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهۡدِيَنَّهُمۡ سُبُلَنَاۚ} [العنكبوت: 69].

2) من يعمل خيراً يلقه وإن قَلَّ، فلا يحقرنَّ العبدُ من المعروف شيئاً.

وأما الأحاديث:

1/95 ــ فالأول: عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : «إنَّ الله تعالىٰ قال: مَن عَادَىٰ لي وَليّاً فَقَدْ آذَنْتُهُ بالْحَرْب. وَما تَقرَبَ إلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْت عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بالنَّوَافِلِ حَتَّىٰ أُحِبَّه، فَإذَا أَحْبَبْتُه كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ به، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتي يَبْطُشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتي يَمْشِي بهَا، وَإنْ سَأَلَنِي أَعْطَيْتُهُ وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ». رواه البخاري.

«آذَنْتُهُ»: أَعْلَمْتُه بِأَنِّي مُحَارِبٌ لَهُ. «اسْتَعَاذَنِي» رُوي بالنونِ وبالباءِ.

غريب الحديث:

وليّاً: الوليّ هُوَ كل مؤمن تقيّ {أَلَآ إِنَّ أَوۡلِيَآءَ ٱللَّهِ لَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ * ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} [يونس: 62 ــ 63].

استعاذني: من الاستعاذة، وهي طلب اللجوء والاعتصام بالله تعالىٰ.

هداية الحديث:

1) الوليّ: هو الذي يتقرَّب إلىٰ الله تعالىٰ بالفرائض ــ وأعظمها تحقيق توحيد الله ــ ثم يُكثر من النوافل.

2) إثبات ولاية أهل الإيمان؛ فالله يحفظهم، ويسدّد أقوالهم، وأعمالهم، ويدافع عنهم {إِنَّ ٱللَّهَ يُدَٰفِعُ عَنِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْۗ} [الحج: 38].

3) الفرائض أحب ما تقرب بها العبد إلىٰ الله تعالىٰ.

4) فعل النوافل مع القيام بالواجبات، موجب لمحبة الله تعالىٰ للعبد.

فائـدة:

قوله في الحديث: «فإذا أحببته كنت سمعه الَّذي يسمع به ، وبصره الَّذي يبصر به...» إلىٰ آخره. جاء تفسيره في رواية: «فبي يسمع وبي يبصر».

معناه: أن العبد يكون في جميع أحواله من أقوال وأفعال فيما يرضي الله تعالىٰ؛ فلا يسمع إلَّا ما يحبه الله ويرضاه، ولا يرىٰ إلَّا ما أذن لَهُ في النظر إليه، ولا يفعل بيده ورجله إلَّا ما هُوَ مباح ومشروع، عندئذٍ يكون هذا العبد من أولياء الله المقربين.

2/96 ــ الثاني: عن أنسٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ _عز وجل_ قال: «إذَا تَقَرَّبَ الْعَبْدُ إلَيَّ شِبْراً تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ ذِرَاعاً، وَإذَا تَقَرَّبَ إليَّ ذراعَاً تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعاً، وَإذَا أَتَانِي يَمْشِي أَتـَيْـتُهُ هَرْوَلَةً». رواه البخاري.

غريب الحديث:

فيما يرويه عَنْ ربه: هذه الصيغة تكون في الأحاديث القدسية (الإلهية).

باعاً: هُوَ مقدار مَدّ اليدين وما بينهما من البدن.

هرولة: نوع من الجري فيه مسارعة للخطى.

هداية الحديث:

1) إكرام الله تعالىٰ لأهل طاعته؛ بأن يجازيهم عَلىٰ ثواب أعمالهم بالمضاعفة.

2) من صَدَق الله تعالىٰ في الطاعة، وفقه سبحانه للمزيد من العبادة.

3/97 ــ الثالث: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ، وَالْفَرَاغُ». رواه البخاري.

غريب الحديث:

مغبون فيهما: مغلوب فيهما، من الغُبن، وهو الشراء بأضعاف الثمن، أو البيع دون الثمن.

هداية الحديث:

1) عَلىٰ العبد أن يغتنم فرصة الصحة والفراغ بطاعة الله _عز وجل_ بقدر ما يستطيع.

2) نِعَمُ الله تتفاوت، ومن أكبر نِعَم الله عَلىٰ العبد ـ بَعد الإيمان ـ نعمتا العافية والفراغ من المشاغل.

3) مقابلة نِعَم الله _عز وجل_ بالطاعات والشكر سبب لحفظها ودوامها؛ فإنه بالشكر تزيد النِّعَم.

4/98 ــ الرابع: عن عائشةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ حَتَّىٰ تَتَفَطَّرَ قَدَمَاهُ، فَقُلْتُ لَهُ: لِمَ تَصْنَعُ هذَا يَا رَسُولَ الله ، وَقَدْ غَفَرَ اللهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟! قَالَ: «أَفَلا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ عَبْداً شَكُوراً؟». متفقٌ عليه. هذا لفظ البخاري، ونحوه في الصحيحين من رواية الـمُغيرة بن شُعْبَةَ.

غريب الحديث:

تتفطر قدماه: تتشقق.

هداية الحديث:

1) الشكر هُوَ القيام بطاعة الله تعالىٰ، ومنه الشكر الفعلي بالتعبد لله تعالىٰ.

2) من خصائص الرسول عليه الصلاة والسلام أن الله قد غفر لَهُ ما تقدم من ذنبه وما تأخر.

3) فضيلة صلاة الليل، مع طول القيام؛ فهما من أحب القربات إلىٰ الله.

5/99 ــ الخامس: عن عائشةَ رضي الله عنها أنها قالت: «كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذَا دَخَلَ الْعَشْرُ أحيَا اللَّيْلَ، وَأيْقَظَ أهْلَهُ، وَجَدَّ وَشَدَّ المِئْزَرَ». متفق عليه.

والمراد: الْعَشْرُ الأَوَاخِرُ من شهر رمضانَ. «وَالْمِئْزَرُ»: الإزَارُ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عن اعْتِزَالِ النِّسَاءِ، وَقيلَ: المُرَادُ تَشْمِيرُهُ للْعِبَادَةِ، يُقَالُ: شَدَدْتُ لِهذَا الأَمْرِ مِئْزَرِي، أيْ: تَشَمَّرْتُ، وَتَفَرَّغْتُ لَهُ.

هداية الحديث:

1) فضيلة العشر الأخير من رمضان؛ لاهتمام النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بها، وإحياء لياليها، ووجود ليلة القدر فيها.

2) من هدي النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه لم يقم ليلة بتمامها إلَّا في العشر الأواخر من رمضان.

3) اعتزال المعتكف أهله حال اعتكافه.

4) يجب عَلىٰ العبد أن يجاهد نفسه في الأوقات الفاضلة، حَتَّىٰ يستوعبها في طاعة الله تعالىٰ؛ فإنها فُرَصٌ للتجارة الرابحة والفلاح، في الدنيا والآخرة.

6/100 ــ السادس: عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : «المُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلىٰ الله مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفي كُلٍّ خَيْرٌ. احْرِصْ عَلىٰ مَا يَنْفَعُكَ، وَاستَعِنْ بِالله وَلاَ تَعْجِزْ. وَإنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلاَ تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلكِنْ قُلْ: قَدَّرَ اللهُ، ومَا شاءَ فَعَلَ؛ فَإنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ». رواه مسلم.

غريب الحديث:

المؤمن القوي: يعني في إيمانه وكثرة طاعاته.

المؤمن الضعيف: يعني في إيمانه وقلة طاعاته.

لا تعجز: العجز معناه عدم القدرة على فعل الخير.

هداية الحديث:

1) حرص المؤمن عَلىٰ تقوية إيمانه بفعل الطاعات، وترك المحرمات.

2) الإنسان العاقل ــ الَّذي قَبِل وصية النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ــ يحرص عَلىٰ ما ينفعه في دينه ودنياه، ويترك كل ما لا نفع فيه.

3) الحثُّ علىٰ الاستعانة بالله في كل الأمور، ولو علىٰ الشيء اليسير، وبالاستعانة يُنفىٰ العجز.

4) من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتم المرء عمله ولا يكسل، وأن يبدأ بالأهم فالأهم.

5) إثبات القدر مع وجوب الرضا فيه؛ فكل شيء بقضاء وقدر.

فائدة:

قوله صلى الله عليه وسلم : «احرص عَلىٰ ما ينفعك» دليل عَلىٰ تقديم المنفعة العليا عَلىٰ المنفعة التي دونها، ومن ذلك إِذَا تعارضت منفعة الدين ومنفعة الدنيا فإنها تقدم منفعة الدين؛ لأن الدين إِذَا صلح صلحت معه الدنيا، أما الدنيا فإنها لا تصلح مع فساد الدين.

7/101 ــ السابع: عنه أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «حُجِبَتِ النَّارُ بِالشهَواتِ، وحُجِبَتِ الْجَنَّةُ بِالمَكَارِهِ». متفقٌ عليه.

وفي رواية لمسلم: «حُفَّت» بَدلَ «حُجِبَتْ» وهُوَ بمَعْنَاهُ أَيْ: بَيْنَهُ وبَيْنَهَا هذَا الحِجَابُ، فَإذا فَعَلَهُ دَخَلَهَا.

هداية الحديث:

1) الشهوات المحرمة باب من أبواب دخول النار؛ وهي إتباعُ النَّفْسِ هواها، فيما يخالف الشرع.

2) المكاره سبب لنيل المكارم، ودخول الجنة.

3) إن العبد إِذَا جاهد نفسه عَلىٰ طاعة الله أحبت نفسه هذه الطاعة وألفتها.

8/102 ــ الثامن: عن أبي عبد الله حُذَيْفَةَ بنِ اليمانِ رضي الله عنهما قال: صَلَّيْتُ معَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَافْتَتَحَ الْبَقَرَةَ، فَقُلْت: يَرْكَع عِنْدَ المائَةِ، ثمَّ مَضَىٰ فَقُلْت: يُصَلِّي بهَا في رَكْعَةٍ، فَمَضَىٰ فَقُلْت يَرْكَعُ بهَا، ثمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ فَقَرَأَهَا، ثمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرانَ فَقَرَأهَا، يَقْرَأُ مُـتَرَسِّلاً؛ إذَا مَرَّ بآيَةٍ فِيها تَسْبِيحٌ سَبَّحَ، وَإذَا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَألَ، وإذَا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ، ثمَّ رَكَعَ فَجَعَلَ يَقُول: «سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ» فكَانَ ركُوعُه نَحْواً مِنْ قِيَامِهِ، ثَم قالَ: «سَمعَ الله لِمَنْ حَمِدَه، رَبَّنَا لَكَ الْحَمْد»، ثمَّ قَامَ قِيَاماً طَوِيلاً قَرِيباً مِمَّا رَكَعَ، ثَم سَجَدَ فَقَالَ: «سُبْحَانَ رَبِّيَ الأَعْلَى» فَكَانَ سُجُوده قَرِيباً مِنْ قِيَامِهِ. رواه مسلم.

غريب الحديث:

مترسلاً: غير مستعجل، مرتلاً بحيث تَبين الحروف وتُعطىٰ حقها.

هداية الحديث:

1) إنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يعمل عمل المجاهد، الَّذي يجاهد نفسه عَلىٰ الطاعة.

2) جواز إقامة الجماعة في صلاة الليل أحياناً ، من غير قصد ومداومة،، أمّا في رمضان فإن السُّنَّة أن يقوم الناس في جماعة.

3) ينبغي للمصلي في صلاة الليل أن يجمع بين الذكر والدعاء والتفكر؛ فيسأل في آية الرحمة، ويستعيذ في آية الوعيد، ويسبح في آية التسبيح.

4) فضيلة طول القيام في صلاة الليل؛ فهذا نوع من جهاد النفس في سبيل الله تعالىٰ.

9/103 ــ التاسع: عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: صَلَّيْت مَعَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً، فَأطَالَ الْقِيَامَ حَتَّىٰ هَمَمْتُ بِأمْرِ سُوءٍ! قيل: وَمَا هَمَمْتَ بِهِ؟ قالَ: هَمَمْتُ أنْ أَجْلِسَ وَأَدَعَهُ. متفقٌ عليه.

غريب الحديث:

هَمَمْت: من الهَمّ بالشيء، وهو العزم عليه.

هداية الحديث:

1) من السُّنَّة أن يقوم العبد في الليل ويطيل القيام.

2) القيام الطويل للعبادة في الليل من هدي النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، فإذا أراد العبد مجاهدة نفسه عَلىٰ القيام فَلْيقتدِ برسول الله صلى الله عليه وسلم .

10/104 ــ العاشر: عن أنس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يَتْبعُ المَيِّتَ ثَلاثَةٌ: أَهْلُهُ وَمَالُه وَعَمَلُه، فَيَرْجِع اثْنَانِ وَيَبْقَىٰ وَاحِدٌ: يَرْجِع أَهْلُهُ وَمَالُهُ، وَيَبْقَىٰ عَمَلُهُ». متفقٌ عليه.

هداية الحديث:

1) عَلىٰ العبد أن يحرص عَلىٰ العمل الصالح؛ فهو الذخر الباقي.

2) الترغيب في اجتهاد المؤمن من الطاعات؛ حَتَّىٰ يكون لَهُ عمل صالح يؤنسه في قبره.

فائدة:

مناسبة هذا الحديث لباب (المجاهدة) أن كثرة العمل الصالح توجب مجاهدة النفس. فلا يزال العبد يدأب علىٰ الطاعة، حتىٰ تصير له عادة، وتُرقِّيه إلى رتب السيادة.

11/105ــ الحادي عشر: عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : «الْجَنَّةُ أَقْرَبُ إلىٰ أَحَدِكُمْ مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ، وَالنَّارُ مِثْلُ ذلِكَ». رواه البخاري.

غريب الحديث:

شِرَاكِ نعله: هُوَ السير الَّذي عَلىٰ ظهر القدم، ويُضرب به المثل في القرب.

هداية الحديث:

1) إن العبد قد يتكلم الكلمة، أو يفعل الفعل من رضوان الله ــ لا يظنّ أنها تبلغ ما بلغت ــ فإذا هي توصله إلىٰ جنة النعيم.

وقد يتكلم الكلمة، أو يفعل الفعل من سخط الله ــ لا يظن أنها تبلغ ما بلغت ــ فإذا هي تهوي به في نار الجحيم.

2) ضرب المثال عند التعليم أرسخ في النفس، وأقرب إلىٰ الفهم.

12/106 ــ الثاني عشر: عن أبي فِراسٍ رَبِيعَةَ بنِ كَعْبٍ الأَسْلَمِيِّ خَادِمِ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وَمِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ، رضي الله عنه قال: «كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فآتِيهِ بِوَضوئه وَحَاجَتِهِ، فَقَالَ: «سَلْني»، فَقُلْت: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ في الجَنَّةِ، فَقَالَ: «أَوَ غَيْرَ ذلكَ ؟» قلْت: هُوَ ذَاكَ، قال: «فَأَعِنِّي عَلىٰ نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ». رواه مسلم.

غريب الحديث:

ــ أهل الصُّفَّة: هم أضياف الإسلام، ممن هاجر إلىٰ المدينة، وليس لهم مأوىٰ، فأسكنهم النَّبيُّ عليه الصّلاة والسّلام في مؤخرة المسجد النَّبويِّ، وكانوا أحياناً يبلغوا الثمانين، وأحياناً دون ذلك، وكان الصحابة رضي الله عنهم يأتونهم بالطعام واللبن وغيره مما يتصدقون به عليهم.

ــ الوَضوء: بالفتح، الماء الَّذي يتوضأ به، والوُضوء بضم الواو: فعل الوضوء.

ــ حاجته: كل ما يحتاجه من لباس وغيره.

هداية الحديث:

1) فضل هذا الصحابي الجليل وعُلوّ همته؛ حيث سأل عَنْ شيء من أمور الآخرة.

2) فضل السجود عَلىٰ باقي هيئات الصلاة؛ «فإن أقرب ما يكون العبد من ربِّه وهو ساجد».

3) إن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لايملك أن يُدخِل أحداً الجنة؛ ولهذا لم يضمن الجنة لهذا الرجل وهو خادمه ولصيق به. فَلْيحذرِ المؤمن من الاتكال عَلىٰ مجرد الأنساب والمقامات والجاهات؛ فإن ذلك كله لا ينفع، إِذَا لم يصاحبه إيمان صادق، وعمل صالح.

13/107 ــ الثالث عشر: عن أبي عبد الله وَيُقَال: أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ ـ ثَوْبَانَ مَوْلىٰ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «عَلَيْكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ، فَإنَّكَ لَنْ تَسْجُدَ لله سَجْدَةً إلَّا رَفَعَكَ اللهُ بهَا دَرَجَةً، وَحَطَّ عَنْكَ بهَا خَطِيئَةً». رواه مسلم.

غريب الحديث:

عَلَيْكَ: الزم.

هداية الحديث:

1) السجود في الصلاة والإكثار منه؛ وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو نوع من المجاهدة.

2) يَحصُل للعبد بالسجود فائدتان عظيمتان؛ الأولى: يرفعه الله به درجة، الثانية: يحط عَنْهُ به خطيئة.

14/108 ــ الرابع عشر: عن أبي صَفْوَانَ عبد الله بن بُسْرٍ الأَسْلَمِيِّ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : «خَيْر النَّاسِ مَنْ طَالَ عُمُره وَحَسُنَ عَمَلُه». رواه الترمذي، وقال: حديثٌ حسن. «بُسْر»: بضم الباء وبالسين المهملة .

هداية الحديث:

1) عَلىٰ العبد سؤال الله أن يجعله ممن طال عمره وحسن عمله.

2) إن مجرد طول العمر ليس خيراً للإنسان إلَّا إِذَا حسن عمله.

فائـدة:

كره بعض العلماء أن يُدعىٰ للإنسان بطول البقاء دون تقييد، بل يُقال: أطال الله بقاءك عَلىٰ طاعته. وقد قالت أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم : اللهم أمتعني بزوجي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبأبي أبي سفيان، وبأخي معاوية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «قد سألتِ الله لآجال مضروبة، وأيام معدودة، وأرزاق مقسومة، لن يُعجل شيئاً قبل حلِّه، أو يُؤخر شيئاً عن حلّه، ولو كنتِ سألتِ الله أن يعيذك من عذاب في النار أو عذاب في القبر، كان خيراً أو أفضل». رواه مسلم.

15/109 ــ الخامس عشر: عن أنس رضي الله عنه قال: غَابَ عَمِّي أنَسُ بنُ النَّضْرِ رضي الله عنه عن قِتالِ بَدْرٍ، فقال: يا رسولَ الله غِبْتُ عَن أوَّلِ قِتَالٍ قَاتَلْتَ المُشْرِكِينَ، لَئِنِ اللهُ أَشْهَدَني قِتَالَ المُشْرِكِينَ لَيُرِيَنَّ اللهُ مَا أَصْنَعُ. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ انْكَشَفَ المُسْلِمُونَ، فَقَالَ: اللهم أَعْتَذِرُ إلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هؤُلاءِ ـ يَعْني أصْحَابه ـ، وَأبْرَأُ إلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هؤُلاَءِ ـ يَعْني المُشْرِكِينَ ـ، ثُمَّ تَقَدَّمَ فَاسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، فَقَالَ: يَا سَعْدُ بْنَ مَعَاذٍ الجَنَّةُ وَرَبِّ النَّضْرِ، إنِّي أَجِدُ رِيحَهَا مِنْ دُونِ أُحُدٍ. قال سَعْدٌ: فَمَا اسْتَطَعْتُ يا رَسولَ الله مَا صَنَعَ ! قال أنسٌ: فَوَجَدْنَا بِهِ بِضْعاً وَثمَانِينَ ضَرْبَةً بِالسَّيْفِ، أَوْ طَعْنَةً بِرُمْحٍ، أَوْ رَمْيَةً بِسَهْمٍ، وَوَجَدْنَاهُ قَدْ قُتِلَ وَمَثَّلَ بِهِ المُشْرِكُونَ، فَمَا عَرَفَهُ أَحَدٌ إلَّا أُخْتُهُ بِبَنَانِهِ. قال أنس: كُـنَّا نَرَىٰ أوْ نَظُنُّ أنَّ هذِهِ الآيَة نَزَلَتْ فيهِ وَفي أَشْبَاهِهِ: {مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ رِجَالٞ صَدَقُواْ مَا عَٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيۡهِۖ} [الأحزاب: 23] إلىٰ آخرها. متفقٌ عليه.

قوله: «لَيُرِيَنَّ الله» رُوي بضم الياء وكسر الراء أيْ: لَيُظْهِرنَّ الله ذلِكَ للناسِ، وَرُوِيَ بفتحهما، ومعناه ظاهر، والله أعلم.

غريب الحديث:

ببنانه: بأطراف أصابعه.

هداية الحديث:

1) عزمُ الإنسان عَلىٰ فعل الطاعات والخيرات، والأخذُ بالأسباب المعينة عَلىٰ ذلك.

2) التبرُّؤ من فعل أهل الكفر والمعاصي دليلٌ عَلىٰ صدق إيمان العبد.

3) فضيلة الصحابي أنس بن النضر رضي الله عنه؛ لشجاعته في المعركة، وإقدامه في قتال الكفار .

4) الحث علىٰ الثبات في أرض الجهاد، وإن تخلّف الأصحاب.

6/110 ــ السادس عشر: عن أبي مسعود عُقْبةَ بنِ عمرٍو الأنصاريّ البدريّ رضي الله عنه قال: لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الصَّدَقَةِ كُنَّا نُحَامِلُ عَلىٰ ظُهُورِنَا، فَجَاءَ رَجُلٌ فَتَصَدَّقَ بِشَيْءٍ كَثِيرٍ، فَقَالوا: مُراءٍ، وجاءَ رَجُل آخَرُ فَتَصَدَّقَ بصَاع، فقالُوا: إنَّ الله لَغَنيٌّ عَنْ صاعِ هذَا! فَنَزَلَتْ: {ٱلَّذِينَ يَلۡمِزُونَ ٱلۡمُطَّوِّعِينَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ فِي ٱلصَّدَقَٰتِ وَٱلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهۡدَهُمۡ} الآية [التوبة: 79]. متفقٌ عليه.

«ونُحَامِلُ» بضم النون، وبالحاءِ المهملة أيْ: يَحْمِلُ أَحَدُنَا علىٰ ظَهْرِهِ بالأُجْرَةِ، ويَـتَصَدَّقُ بها.

غريب الحديث:

ــ مُراءٍ: من المراءاة؛ وهي العمل ليراه الناس، فيكتسب منهم غرضاً دنيوياً.

ــ صاع: أربعة أمداد نبوية؛ والمد: ملء اليدين لا مبسوطتين ولا مقبوضتين.

ــ يلمزون: يعيبون .

المُطّوعين: بتشديد الطاء، أي المتنفلين.

جهدهم: طاقتهم.

هداية الحديث:

1) الواجب علىٰ المؤمن إِذَا بلغه عَنِ الله _عز وجل_ ورسوله صلى الله عليه وسلم شيء أن يبادر لما يجب عليه، من امتثال الأمر، أو اجتناب النهي، فأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم امتثلوا أمر الصدقة بما يقدرون عليه.

2) حرص الصحابة عَلىٰ استباق الخير، ومجاهدتهم أنفسَهم عَلىٰ ذلك، وهذا من فضائلهم رضي الله عنهم.

3) إن الله _عز وجل_ يدافع عَنِ المؤمنين، وهذا من ثمرات الإيمان.

17/111 ــ السابعَ عشر: عن سعيد بن عبد العزيز، عن رَبيعة بن يزيد، عن أبي إدريس الخَوْلاَني، عن أبي ذَرٍّ جُنْدُبِ بنِ جُنَادَةَ رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فيما يَروِي عَنِ الله تبارك وتعالىٰ أنه قال: «يا عِبَادِي إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلىٰ نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنكُمْ مُحَرَّماً، فَلا تَظَالموا، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدوني أهْدِكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائعٌ إلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ ، فَاسْتَطْعِمُوني أُطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ، فَاسْتكْسُوني أَكْسُكُمْ، يَا عِبَادِي إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ـ وَأنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ـ، فَاسْتَغْفِرُوني أَغْفِرْ لَكُمْ، يَا عِبَادِي إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضُرِّي فَتَضُرُّوني، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُوني، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وآخِرَكُمْ، وَإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلىٰ أَتْقَىٰ قَلْب رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذلِكَ في مُلْكِي شَيْئاً، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وآخِرَكُمْ وَإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كانُوا عَلىٰ أفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنكُمْ مَا نَقَصَ ذلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئاً، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وآخِرَكُمْ وَإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا في صَعِيد وَاحِدٍ، فَسَأَلُوني فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ، مَا نَقَصَ ذلِكَ ممّا عندي إلَّا كَمَا يَنْقُصُ المِخْيَطُ إذَا أُدْخِلَ البحرَ، يَا عِبَادِي إنَّما هِي أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْراً فَلْيَحْمَدِ الله، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذلِكَ فَلاَ يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ». قَال سعيدٌ: كان أبو إدريس إذا حدَّثَ بهذا الحديثِ جَثَا عَلىٰ رُكبتيه. رواه مسلم.

ورُوِّينا عن الإمام أحمد بن حنبل ــ رحمه الله تعالىٰ ــ قال: ليس لأهل الشام حديث أشرف من هذا الحديث.

غريب الحديث:

صعيد: أرض واحدة ومقام واحد.

المِخْيَط: بكسر فسكون ففتح، الإبرة.

هداية الحديث:

1) افتقار العباد إلىٰ ربهم في جميع حوائجهم الدينية والدنيوية، فالهداية القلبية والنِّعَم الدنيوية من مأكل ومشرب وحاجة، كلها من الله تعالىٰ تفضلاً عَلىٰ عباده.

2) خزائن الله تعالىٰ ملأىٰ لا تنقصها نفقة، فَلْيجتهدِ العبد في الدعاء، وهو موقن بالخير من عند الله تعالىٰ، فإن حسن الظن بالله تعالىٰ خير للعبد.

3) إن الله سبحانه يحرّم عَلىٰ نفسه، ويوجب عَلىٰ نفسه بحكمته وكمال علمه.

4) العلم النافع والعمل الصالح غذاء للقلب، كما أن الطعام والشراب أغذية للبدن.

5) الإنسان يُجزىٰ بعمله؛ إن خيراً فخير، وإن شرّاً فشرّ.

6) عَلىٰ العبد أن يجاهد نفسه عَلىٰ عمل الخير، ليجد ثواب ذلك في الدنيا والآخرة.