اللغات المتاحة للكتاب Indonesia English

ترجمة مؤلف كتاب (رياض الصالحين) العلامة يحيى بن شرف النووي رحمه الله تعالى (631 ــ 676 هـ)

نسبه:

هو العلامة الفقيه الزاهد أبو زكريا محيي الدين يحيىٰ بن شرف بن مُرِي بن حسن ابن حسين بن محمد بن جمعة بن حزام، النووي نسبة إلىٰ نوىٰ ــ وهي قرية من قرىٰ حوران في سورية ــ ، ثم الدمشقي، الشافعي، شيخ المذهب، وكبير الفقهاء في زمانه.

مَولدهُ ونشأته:

ولد النووي ــ رحمه الله تعالىٰ ــ في المحرم من 631هـ في قرية نوىٰ من أبوين صالحين، ولما بلغ العاشرة من عمره بدأ في حفظ القرآن وقراءة الفقه علىٰ بعض أهل العلم هناك، وصادف أن مر بتلك القرية الشيخ ياسين بن يوسف المراكشي، فرأىٰ الصبيان يُكرهونه علىٰ اللعب وهو يهرب منهم ويبكي لإكراههم ويقرأ القرآن، فذهب إلىٰ والده ونصحه أن يفرغه لطلب العلم، فاستجاب له. وفي سنة 649هـ قدم مع أبيه إلىٰ دمشق لاستكمال تحصيله العلمي في مدرسة دار الحديث، وسكن المدرسة الرواحية، وهي ملاصقة للمسجد الأموي من جهة الشرق، وفي عام 651هـ حَجَّ مع أبيه ثم رجع إلىٰ دمشق.

حَيَاته العلميّة:

في سنة 665هـ تولىٰ مشيخة دار الحديث والتدريس بها حتىٰ تُوفي، وكان عمره 45 سنة. وقد تميزت حياة النووي العلمية بعد وصوله إلىٰ دمشق بثلاثة أمور:

الأول: الجد في طلب العلم والتحصيل في أول نشأته وفي شبابه، وقد أخذ العلم منه كل مأخذ، وأصبح يجد فيه لذة لا تعدلها لذة، وقد كان جاداً في القراءة والحفظ؛ فقد حفظ (التنبيه) في أربعة أشهر ونصف، وحفظ (ربع العبادات من المهذب) في باقي السنة، واستطاع في فترة وجيزة أن ينال إعجاب وحب أستاذه أبي إبراهيم إسحق بن أحمد المغربي، فجعله معيد الدرس في حلقته.

الثاني: سعة علمه وثقافته، فقد جمع إلىٰ جانب الجد في الطلب غزارة العلم والثقافة المتعددة، وقد حدث تلميذه علاء الدين بن العطار عن فترة التحصيل والطلب، أنه كان يقرأ كل يوم اثني عشر درساً علىٰ المشايخ شرحاً وتصحيحاً، درسين في الوسيط، وثالثاً في المهذب، ودرساً في الجمع بين الصحيحين ، وخامساً في صـحيح مسلم، ودرساً في اللمع لابن جني في النحو، ودرساً في إصلاح المنطق لابن السِّكِّيت في اللغة، ودرساً في الصرف، ودرساً في أصول الفقه، وتارة في اللمع لأبي إسحاق، وتارة في المنتخب للفخر الرازي، ودرساً في أسماء الرجال، ودرساً في أصول الدين، وكان يكتب جميع ما يتعلق بهذه الدروس من شرح مشكل وإيضاح عبارة وضبط لغة.

الثالث: غزارة إنتاجه، اعتنىٰ بالتأليف وبدأه عام 660هـ، وكان قد بلغ الثلاثين من عمره، وقد بارك الله له في وقته وأعانه، فأذاب عصارة فكره في كتب ومؤلفات عظيمة ومدهشة، تلمس فيها سهولة العبارة، وسطوع الدليل، ووضوح الأفكار، والإنصاف في عرض آراء الفقهاء، ومازالت مؤلفاته حتىٰ الآن تحظىٰ باهتمام كل مسلم، والانتفاع بها في سائر البلاد.

ومن أهم كتبه: شرح صحيح مسلم، والمجموع شرح المهذب، ورياض الصالحين ، والأذكار، وتهذيب الأسماء واللغات، والأربعون النووية، والمنهاج في الفقه.

أخلاقهُ وَصفاته:

أجمع أصحاب كتب التراجم أن النووي كان رأساً في الزهد، وقدوة في الورع، وعديم النظير في مناصحة الحكام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويطيب لنا في هذه العجالة عن حياة النووي أن نتوقف قليلاً مع هذه الصفات المهمة في حياته:

الزهد: وجد النووي في لذة العلم عِوضاً عن اللذائذ الفانية، فتغرغر بحلاوة العلم والإيمان. والذي يلفت النظر أنه انتقل من بيئة بسيطة إلىٰ دمشق حيث الخيرات والنعيم، وكان في سن الشباب حيث قوة الغرائز، ومع ذلك فقد أعرض عن جميع المتع والشهوات وبالغ في التقشف وشظف العيش.

الورع: في حياته أمثلة كثيرة تدل علىٰ ورع شديد، منها أنه كان لا يأكل من فواكه دمشق، ولما سُئل عن سبب ذلك قال: إنها كثيرة الأوقاف، والأملاك لمن تحت الحجر شرعاً، ولا يجوز التصرف في ذلك إلا علىٰ وجه الغبطة والمصلحة، والمعاملة فيها علىٰ وجه المساقاة، وفيها اختلاف بين العلماء، ومن جوّزها قال بشرط المصلحة والغبطة لليتيم والمحجور عليه، والناس لا يفعلونها إلا علىٰ جزء من ألف جزء من الثمرة للمالك، فكيف تطيب نفسي؟ واختار النزول في المدرسة الرواحية علىٰ غيرها من المدارس، لأنها كانت من بناء بعض التجار.

وكان لدار الحديث راتب كبير فما أخذ منه فلساً، بل كان يجمعها عند ناظر المدرسة، وكلما صار له حقّ سَنَة اشترىٰ به ملكاً ووقفه علىٰ دار الحديث، أو اشترىٰ كتباً فوقفها علىٰ خزانة المدرسة، ولم يأخذ من غيرها شيئاً. وكان لا يقبل من أحد هدية ولا عطية إلا إذا كانت به حاجة إلىٰ شيء وجاءه ممن تحقق دينه. وكان لا يقبل إلا من والديه وأقاربه، فكانت أمه ترسل إليه القميص ونحوه ليلبسه، وكان أبوه يرسل إليه ما يأكله، وكان ينام في غرفته التي سكن فيها يوم نزل دمشق في المدرسة الرواحية، ولم يكن يبتغي وراء ذلك شيئاً.

مُناصحَتُه الحُكام: لقد توفرت في النووي صفات العالم الناصح الذي يجاهد في سبيل الله بلسانه، ويقوم بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهو مخلص في مناصحته، وليس له أي غرض خاص أو مصلحة شخصية، وشجاع لا يخشىٰ في الله لومه لائم، وكان يملك البيان والحجة لتأييد دعواه.

وكان الناس يرجعون إليه في الملمات والخطوب ويستفتونه، فكان يُقبل عليهم ويسعىٰ لحل مشكلاتهم، كما في قضية الحوطة علىٰ بساتين الشام:

لما ورد دمشق من مصر السلطان الملك الظاهر بيبرس بعد قتال التتار وإجلائهم عن البلاد، زعم له وكيل بيت المال أن كثيراً من بساتين الشام من أملاك الدولة، فأمر الملك بالحوطة عليها [أي بحجزها]، وتكليف واضعي اليد علىٰ شيء منها إثبات ملكيته وإبراز وثائقه، فلجأ الناس إلىٰ الشيخ في دار الحديث ، فكتب إلىٰ الملك كتاباً جاء فيه: «ولقد لحق المسلمين بسبب هذه الحوطة علىٰ أملاكهم أنواع من الضرر لا يمكن التعبير عنها، وطُلب منهم إثبات لا يلزمهم، فهذه الحوطة لا تحل عند أحد من علماء المسلمين، بل من في يده شيء فهو ملكه لا يحل الاعتراض عليه ولا يكلف إثباته»، فغضب السلطان من هذه الجرأة عليه وأمر بقطع رواتبه وعزله عن مناصبه، فقالوا له: إنه ليس للشيخ راتب وليس له منصب. ولما رأىٰ الشيخ أن الكتاب لم يفد، مشىٰ بنفسه إليه وقابله وكلّمه كلاماً شديداً، وأراد السلطان أن يبطش به، فصرف الله قلبه عن ذلك وحمىٰ الشيخ منه، وأبطل السلطان أمر الحوطة، وخلص الله الناس من شرها.

وَفَاته:

في سنة 676هـ رجع إلىٰ نوىٰ بعد أن رد الكتب المستعارة من الأوقاف، وزار مقبرة شيوخه، فدعا لهم وبكىٰ، وزار أصحابه الأحياء وودعهم، وبعد أن زار والده زار بيت المقدس والخليل، وعاد إلىٰ نوىٰ فمرض بها وتوفي في 24 رجب. ولما بلغ نعيه إلىٰ دمشق ارتجت هي وما حولها بالبكاء، وتأسف عليه المسلمون أسفاً شديداً، وتوجه قاضي القضاة عز الدين محمد بن الصائغ وجماعة من أصحابه إلىٰ نوىٰ للصلاة عليه في قبره، ورثاه جماعة. وهكذا انطوت صفحات عَلَمِ من أعلام المسلمين، بعد جهاد في طلب العلم، ترك للمسلمين كنوزاً من العلم، لا يزال العالم الإسلامي يذكره بخير، ويرجو له من الله تعالىٰ أن تناله رحماته ورضوانه.

رحم الله النووي رحمة واسعة، وحشره مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً[2].

[2]() هذه الترجمة منقولة عن مقدمة كتاب (نزهة المتقين شرح رياض الصالحين) بتصرف يسير. ومن رغب في التوسع، فلينظر: ــ البداية والنهاية لابن كثير (13/278). ــ تذكرة الحفاظ للذهبي (4/1470 ــ 1474). ــ طبقات الشافعية للسبكي (5/165 ــ 168). ــ شذرات الذهب لابن العماد (5/354 ــ 356).