اللغات المتاحة للكتاب Indonesia English

253 ــ باب كرامات الأولياء وفضلهم

قَالَ الله تَعَالىٰ: {أَلَآ إِنَّ أَولِيَآءَ ٱللَّهِ لَا خَوفٌ عَلَيهِم وَلَا هُم يَحزَنُونَ * ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ * لَهُمُ ٱلبُشرَىٰ فِي ٱلحَيَوٰةِ ٱلدُّنيَا وَفِي ٱلأٓخِرَةِ لَا تَبدِيلَ لِكَلِمَٰتِ ٱللَّهِ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلفَوزُ ٱلعَظِيمُ} [يونس: 62،64].

وقال تعالىٰ: {وَهُزِّيٓ إِلَيكِ بِجِذعِ ٱلنَّخلَةِ تُسَٰقِط عَلَيكِ رُطَبا جَنِيّا * فَكُلِي وَٱشرَبِي} [مريم: 25 ــ 26]، وقال تعالىٰ: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيهَا زَكَرِيَّا ٱلمِحرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزقا قَالَ يَٰمَريَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا قَالَت هُوَ مِن عِندِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَرزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيرِ حِسَابٍ} [ آل عمران: 37]. وقال تعالىٰ: {وَإِذِ ٱعتَزَلتُمُوهُم وَمَا يَعبُدُونَ إِلَّا ٱللَّهَ فَأوُۥٓاْ إِلَى ٱلكَهفِ يَنشُر لَكُم رَبُّكُم مِّن رَّحمَتِهِۦ وَيُهَيِّئ لَكُم مِّن أَمرِكُم مِّرفَقا * وَتَرَى ٱلشَّمسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَٰوَرُ عَن كَهفِهِم ذَاتَ ٱليَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقرِضُهُم ذَاتَ ٱلشِّمَالِ} [الكهف: 16، 17].

فائدة:

الكرامات: هي كل أمر خارق للعادة، يُظهره الله سبحانه وتعالىٰ علىٰ يد متّبعي الرسول صلى الله عليه وسلم، إما تكريماً، وإما لحجة، أو حاجة، كنصرة حق، أو إبطال باطل، وأعظم كرامة لزوم الاستقامة. وهي ثابتة في الشرع والواقع.

هداية الآيات:

1) شرط الولاية، كما ذكرها الله _عز وجل_ في كتابه: 1 ــ الإيمان. 2 ــ التقوىٰ.

فلا يصح أن ننسب إلىٰ شخص الولاية إلا بوجود هذين الشرطين، وما يدّعيه بعض الدّجّالين والمشعوذين من الكرامات، فما هو إلا كذب وافتراءات أعانتهم عليه الشياطين.

2) إذا فعل العبد ما يُرضي الله تعالىٰ أمَّنه من الخوف، ونصره في الضعف، وأيّده ورفع منزلته في الدنيا والآخرة.

1/1503 ــ وَعَنْ أَبي مُحَمَّدٍ عَبْدِ الرَّحمنِ بْنِ أبي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنهما: أَنَّ أَصْحَابَ الصُّفَّةِ كَانُوا أُناساً فُقَرَاءَ، وأنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ مَرَةً: «مَنْ كانَ عِنْدَهُ طَعَامُ اثْنَيْنِ فَلْيَذْهَبْ بِثَالِثٍ، وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ أَرْبَعَةٍ فَلْيَذْهَبْ بِخَامِسٍ بِسَادِسٍ» أَوْ كَمَا قَالَ، وأنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه جَاءَ بِثَلاَثَةٍ، وَانْطَلَقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِعَشَرَةٍ، وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ تَعَشَّىٰ عِنْدَ النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ لَبِثَ حَتَّىٰ صَلَّىٰ العِشَاءَ، ثُمَّ رَجَعَ، فَجَاءَ بَعْدَ ما مَضَىٰ مِنَ اللَّيْلِ مَا شَاءَ الله. قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: ما حَبَسَكَ عَنْ أَضْيَافِكَ ؟ قَالَ: أَوَمَا عَشَّيْتِهمْ ؟ قَالَتْ: أبَوْا حَتَّىٰ تَجِيءَ، وَقَدْ عَرَضُوا عَلَيْهِمْ، قَالَ: فَذَهَبْتُ أنا، فَاختَبَأْتُ، فَقَالَ: يَا غُنْثَرُ، فَجَذَعَ وَسَبَّ، وَقَالَ: كُلُوا لا هَنِيئاً، واللهِ لاَ أَطْعَمُهُ أَبَداً، قَالَ: وَأيمُ الله مَا كُنَّا نَأْخذُ مِنْ لُقْمَةٍ إلَّا رَبا مِنْ أَسْفَلِهَا أَكْثَرُ مِنْهَا حَتَىٰ شَبِعُوا، وَصَارَتْ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَتْ قَبْلَ ذلِكَ، فَنَظَرَ إلَيْهَا أبُو بكْرٍ، فَقَالَ لامْرَأَتِهِ: يَا أُخْتَ بَني فِرَاسٍ، مَا هذَا؟ قَالَتْ: لا، وَقُرّةِ عَيْني لهِيَ الآنَ أَكثَرُ مِنْها قَبْلَ ذلِكَ بِثَلاثِ مَرَّاتٍ، فَأَكَلَ مِنْهَا أَبُو بَكْرٍ، وَقَالَ: إنَّمَا كَانَ ذلِكَ مِنَ الشَّيْطَانِ، يَعني يَمِينَهُ. ثُمَّ أَكَلَ مِنْهَا لُقْمَةً، ثُمَّ حَمَلَهَا إلىٰ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَصْبَحَتْ عِنْدَهُ. وَكَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَومٍ عَهْدٌ، فَمَضَىٰ الأجَلُ، فَتَفَرَّقْنَا اثني عَشَرَ رَجُلاً، مَعَ كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُم أُنَاسٌ، الله أَعْلَم كَمْ مَعَ كُلِّ رَجُلٍ، فَأَكَلُوا مِنْهَا أَجْمَعُونَ.

وفي رِوَايَةٍ: فَحَلَفَ أَبُو بكْرٍ لا يَطْعَمُه ، فَحَلَفَتِ المَرأةُ لا تَطْعَمُه ، فَحَلَفَ الضَّيفُ ــ أَوِ الأضْيَافُ ــ أَنْ لا يَطعَمَه، أَوْ يَطعَمُوهُ حَتَّىٰ يَطعَمَه، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: هذِهِ مِنَ الشَّيْطَانِ ! فَدَعَا بِالطَّعَامِ، فَأَكَلَ وَأَكَلُوا، فَجَعَلُوا لا يَرْفَعُونَ لُقْمَةً إلَّا رَبَتْ مِنْ أَسْفَلِهَا أَكْثَرُ مِنْهَا، فَقَالَ: يَا أُخْتَ بَني فِرَاسٍ، مَا هذَا ؟ فَقَالَتْ: وَقرَّةِ عَيْني، إنَّهَا الآنَ لأَكْثَرُ مِنْهَا قَبْلَ أَنْ نَأْكُلَ، فَأَكَلُوا، وَبَعَثَ بهَا إلىٰ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، فَذَكَرَ إنَّهُ أَكَلَ مِنْهَا.

وفي رِوَايَةٍ: إنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمنِ: دُونَكَ أَضْيَافَكَ، فَإنِّي مُنْطَلِقٌ إلىٰ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَافْرُغْ مِنْ قِرَاهُمْ قَبْلَ أَنْ أَجِيءَ، فَانْطَلَقَ عَبْدُ الرَّحْمنِ، فَأَتَاهُم بِمَا عِنْدَهُ، فَقَالَ: اطْعَمُوا، فَقَالُوا: أَيْنَ رَبُّ مَنزِلِنَا ؟ قَالَ: اطْعَمُوا، قَالُوا: مَا نَحْنُ بِآكِلِينَ حَتَّىٰ يَجِيءَ رَبُّ مَنْزِلنَا، قَالَ: اقْبَلُوا عَنَّا قِرَاكُمْ، فَإنَّه إنْ جَاءَ وَلَمْ تَطْعَمُوا، لَنَلقَيَنَّ مِنْهُ، فَأَبَوْا، فَعَرَفْتُ أَنّهُ يَجِدُ عَلَيَّ، فَلَمَّا جَاءَ تنَحَّيْتُ عَنْهُ، فَقَالَ: مَا صنَعْتُمْ ؟ فَأَخبَرُوه، فَقَالَ: يَا عَبْدَ الرَّحْمنِ، فَسَكَتُّ، ثمَّ قَالَ: يَا عَبْدَ الرَّحمنِ، فَسَكَتُّ، فَقَالَ: يَا غُنْثَرُ، أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ إنْ كُنْتَ تَسْمَعُ صَوتي لَمَّا جِئْتَ ! فَخَرَجُتُ، فَقُلْتُ: سَلْ أَضْيَافَكَ، فَقَالُوا: صَدَقَ، أَتَانَا بِهِ. فَقَالَ: إنَّمَا انْتَظَرْتُموني، واللهِ، لا أطعَمُه اللَّيْلَةَ، فَقَالَ الآخَرُونَ: وَالله لا نَطعَمُه حَتَّىٰ تَطْعَمَهُ، فَقَالَ: وَيْلَكُمْ مَالَكُمْ لا تَقْبَلُونَ عَنَّا قِرَاكُمْ ؟ هَاتِ طَعَامَكَ، فَجَاءَ بِهِ، فَوَضَعَ يَدَهُ، فَقَالَ: بِسمِ الله. الأولىٰ مِنَ الشّيْطَانِ، فَأَكَلَ وَأَكَلُوا. متَّفقٌ عليه.

قوله: «غُنْثَر» بِغَينٍ معجمةٍ مضمومةٍ، ثم نونٍ ساكِنَةِ، ثم ثاءٍ مثلثةٍ، وهو: الغَبِيُّ الجَاهِلُ، وقوله: «فجدَّعَ» أي: شَتَمَه، وَالجَدَع: القَطْعُ. قوله: «يَجِدُّ عليَّ» هو بكسرِ الجيمِ، أَيْ: يَغْضَبُ.

غريب الحديث:

الصُّفَّة: المكان الذي كان يأوي إليه فقراء الصحابة في آخر المسجد النبوي.

ربا: زاد.

قرة عيني: يُعبِّر بها عن المسرَّة ورؤية ما يحبه الإنسان، ولا يقصد منها الحلف بغير الله _عز وجل_، وإنما هي للتوكيد، وهي عادة من عادات العرب في إثبات التعجب وتعظيم الأمور، وإلا فالحلف بغير الله _عز وجل_ منهيٌ عنه أشد النهي، ولا يجوز للمرء أن يحلف إلا بالله وحده، وهذا من تمام الإيمان وكماله.

هداية الحديث:

1) بيان فضيلة أبي بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه، فهو أفضل الأولياء علىٰ الإطلاق، حاشا الأنبياء والمرسلين.

2) إذا غضب العبد لسبب يقتضي الغضب فإنه لا يُلام عليه، ولا ينقص من فضله ومرتبته.

3) علىٰ العبد إذا حلف علىٰ شيء ثم رأىٰ غيره خيراً منه أن يكفر عن يمينه، ويفعل الذي هو خير.

4) إن إكرام الضيفان من تمام الإيمان.

5) من أصول التربية عناية الوالد بتربية أولاده علىٰ مكارم الأخلاق، كإكرام الضيف ومساعدة المحتاجين.

2/1504 ــ وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «لقَدْ كَان فيمَا قَبْلَكُم منَ الأمَم ناسٌ محدَّثونَ، فإن يَكُ في أُمَّتي أَحَدٌ فَإِنَّهُ عُمَرُ». رواه البخاري، ورواه مسلم من روايةِ عائِشَةَ، وفي رِوايَتِهِما قالَ ابنُ وَهْبٍ: «مُحَدَّثُونَ» أي: مُلْهَمُونَ.

هداية الحديث:

1) فضيلة الصحابي الجليل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فهو من أولياء الله _عز وجل_ الذين أثنىٰ عليهم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم.

2) كلما قوي إيمان العبد بالله، وأكثر من طاعة مولاه فإنه سبحانه يوفّقه للحق بقدر ما معه من الإيمان، والعلم، والعمل الصالح.

3/1505ــ وَعَنْ جَابِرِ بنِ سَمُرَةَ رضي الله عنهما قَالَ: شَكَا أَهْلُ الكُوفَةِ سَعْداً، يَعْني: ابْنَ أبي وَقَّاصٍ رضي الله عنه، إلىٰ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رضي الله عنه، فَعَزَلَهُ وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ عَمَّاراً، فَشَكَوْا حَتَّىٰ ذَكَرُوا أنهُ لا يُحْسِنُ يُصَلِّي، فَأَرْسَلَ إلَيْهِ، فَقَال: يَا أَبَا إسْحَاقَ، إنَّ هؤُلاءِ يَزْعُمُونَ أَنَّكَ لا تُحْسِنُ تُصَلِّي، فَقَالَ: أَمَّا أنا واللهِ فَإنِّي كُنْتُ أصُلِّي بِهِمْ صَلاَةَ رَسُولِ الله، صلى الله عليه وسلم لا أَخْرِمُ عَنْهَا، أُصلِّي صَلاةَ العِشَاءِ فَأَرْكُدُ في الأُولَيَيْنِ، وَأخُفُّ في الأُخْرَيَيْنِ، قَالَ: ذلِكَ الظَنُّ بك يَا أَبَا إسْحَاقَ، وَأَرْسَلَ مَعَهُ رَجُلاً، أَوْ رِجَالاً، إلىٰ الكُوفَةِ يَسْأَلُ عَنْهُ أَهْلَ الكُوفَةِ، فَلَمْ يَدَعْ مَسْجِداً إلَّا سَأَلَ عَنْهُ، وَيُثْنُونَ مَعْرُوفاً، حَتَّىٰ دَخَلَ مَسْجِداً لِبَني عَبْسٍ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، يُقَالُ لَهُ: أُسَامَةُ بْنُ قَتَادَةَ، يُكَنَّىٰ أَبَا سَعْدَةَ، فَقَالَ: أَمَا إذْ نَشَدْتَنَا فَإنَّ سَعْداً كَانَ لاَ يَسِيرُ بِالسَّرِيَّةِ، وَلا يَقْسِمُ بِالسَّوِيَّةِ، وَلا يَعْدِلُ في القَضِيَّةِ، قَالَ سَعْدٌ: أَمَا واللهِ لأَدْعُوَنَّ بِثَلاثٍ: اللهم إنْ كَانَ عَبْدُكَ هذَا كَاذِباً، قَامَ رِيَاءً وَسُمْعَةً، فَأَطِلْ عُمُرَهُ، وَأَطِلْ فَقْرَهُ، وَعَرِّضْهُ لِلفِتَنِ. وَكانَ بَعْدَ ذلِكَ إذا سُئِلَ يَقولُ: شَيْخٌ كَبِيرٌ مَفْتُونٌ، أصَابَتْني دَعْوَةُ سَعْدٍ.

قَالَ عَبْدُ المَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ الرَّاوِي عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ: فَأَنَا رَأَيْتُهُ بَعْدُ قَدْ سَقَطَ حَاجِبَاهُ عَلىٰ عَيْنَيْهِ مِنَ الكِبَرِ، وَإنَّهُ لَيَتَعَرَّضُ للجَوَارِي في الطُّرُقِ فَيَغْمِزهُنَّ. متفقٌ عليهِ.

غريب الحديث:

ما أخرم: لا أنقص.

أركد: أقوم طويلاً.

نشدتنا: طلبت منا القول.

لا يسير بالسرية: لا يخرج للغزو.

هداية الحديث:

1) إظهار كرامة لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، فهو من الأولياء مجابي الدعوة.

2) جواز دعاء المظلوم علىٰ ظالمه من غير بغي وعدوان، فدعوة المظلوم لا تُردّ.

3) حرص أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه علىٰ الرعيَّة، وتحمّله المسؤولية، ولهذا اشتُهر بعدالته وحسن سياسته في الأمور كلها.

4/1506 ــ وَعَنْ عُرْوَةَ بنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بنِ نُفَيْلٍ رضي الله عنه خَاصَمَتْهُ أَرْوَىٰ بِنْتُ أَوْسٍ إلىٰ مَرْوَانَ بْنِ الحَكَمِ، وَادَّعَتْ أَنَّهُ أَخَذَ شَيْئاً مِنْ أَرْضِهَا، فَقَالَ سَعِيدٌ: أَنا كُنْتُ آخُذُ مِنْ أَرْضِهَا شَيْئاً بَعْدَ الَّذي سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم؟! قَالَ: مَاذا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ أَخَذَ شِبْراً مِنَ الأَرْضِ ظُلْماً طُوِّقَهُ إلىٰ سَبْعِ أَرَضِينَ»، فَقالَ لَهُ مَرْوانُ: لا أَسْأَلُكَ بيِّنَةً بَعْدَ هذَا، فَقَالَ سَعِيدٌ: اللهم إنْ كانَتْ كَاذِبةً، فَأَعْمِ بَصَرَهَا، وَاقْتُلْهَا في أَرْضِهَا، قَالَ: فَمَا مَاتَتْ حَتَّىٰ ذَهَبَ بَصَرُها، وَبَيْنَمَا هِيَ تَمْشِي في أَرْضِهَا إذْ وَقَعَتْ في حُفْرَةٍ فَمَاتَتْ. متفقٌ عليهِ.

وفي روايةٍ لمسلمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ بمَعْنَاهُ، وأَنّهُ رَآهَا عَمْيَاءَ تَلْتَمِسُ الجُدُرَ تَقُولُ: أَصَابَتْني دَعْوَةُ سَعِيدٍ، وَأنّهَا مَرَّتْ عَلىٰ بِئْرٍ في الدَّارِ التي خاصَمَتْهُ فِيها، فَوَقَعَتْ فِيهَا، فَكَانَتْ قَبْرَها.

هداية الحديث:

1) بيان كرامة سعيد بن زيد رضي الله عنه باستجابة الله _عز وجل_ دعوتَه علىٰ المرأة الظالمة الكاذبة.

2) حرص الصحابة رضي الله عنهم علىٰ الالتزام بالسنة وتطبيقها، فهم أكثر الناس علماً بحدود ما أنزل الله علىٰ رسوله صلى الله عليه وسلم.

3) التحذير من إيذاء العلماء الربّانيّين، والدعاة الصالحين، وأولياء الله المتقين.

5/1507ــ وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله رضي الله عنهما قَالَ: لمّا حَضَرَتْ أُحُدٌ دَعاني أبي مِنَ اللَّيْلِ، فَقَالَ: مَا أُرَانِي إلَّا مَقْتُولاً في أَوَّلِ مَنْ يُقْتَلُ مِنْ أَصحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وإنِّي لا أتْرُكُ بَعْدِي أَعَزَّ عَلَيَّ مِنْكَ غَيْرَ نَفْسِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، وَإنَّ عَلَيَّ دَيْناً فَاقْضِ، وَاسْتَوصِ بِأَخَوَاتِكَ خَيْراً. فَأَصْبَحْنَا، فَكَانَ أَوَّلَ قَتِيلٍ، وَدَفَنْتُ مَعَهُ آخَرَ في قَبْرِهِ، ثُمَّ لَمْ تَطِبْ نَفْسي أَنْ أَتْرُكَهُ مَعَ آخَرَ، فَاسْتَخْرَجْتُهُ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَإذَا هُوَ كَيَوْمَ وَضَعْتُهُ غَيْرَ أُذنِهِ، فَجَعَلْتُهُ في قَبْرٍ عَلىٰ حِدَةٍ. رواه البخاري.

هداية الحديث:

1) إظهار كرامة لعبد الله بن حرام والد جابر رضي الله عنهما، فقد أخبر أنه مقتول في أول الصحابة، وأُخرج من قبره بعد ستة أشهر كيوم وضع فيه رضي الله عنه.

2) كمال حبّ الصحابة رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وتفضيلهم إيّاه علىٰ النفس والأهل والولد. فرضي الله عنهم أجمعين.

6/1508ــ وَعَنْ أَنسٍ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَا مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ، وَمَعَهُمَا مِثْلُ المِصْبَاحَيْنِ بَيْنَ أَيدِيهِمَا، فَلَمَّا افْتَرَقَا، صَارَ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهما وَاحِدٌ حَتىٰ أتىٰ أَهْلَهُ.

رواه البخاريّ مِنْ طرُقٍ، وفي بعْضِها: أَنَّ الرَّجُلَيْنِ أُسَيْدُ بنُ حُضَيرٍ، وَعَبَّادُ بنُ بِشْرٍ رضي الله عنهما.

هداية الحديث:

1) الإعلام بكرامة هذين الصحابيَّيْن الجليلَيْن وهما: أسيد بن حضير، وعباد بن بشر، رضي الله عنهما.

2) من خرج في طلب الحق والعلم فإن الله _عز وجل_ يتولاّه في جميع أموره.

7/1509ــ وَعَنْ أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَشرَةَ رَهْطٍ سَريَّةً عيناً، وَأَمَّرَ عَليْهِم عَاصِمَ بنَ ثابتٍ الأنصَاريَّ رضي الله عنه، فَانْطَلَقُوا حَتَّىٰ إذا كانُوا بِالهَدْأَةِ، بَيْنَ عُسْفانَ وَمَكَّةَ، ذُكِرُوا لِحَيٍّ مِنْ هُذَيْلٍ يُقالُ لهُمْ: بَنُو لِحْيانَ، فَنَفَرُوا لهمْ بِقَرِيبٍ مِنْ مِائِة رَجُلٍ رَامٍ، فاقْتَصُّوا آثَارَهُمْ، فَلَمَّا أَحَسَّ بِهِمْ عَاصِمٌ وَأَصْحَابُهُ لَجَؤوا إلىٰ مَوْضِعٍ، فَأَحَاطَ بهِمُ القَوْمُ، فَقَالُوا: انْزِلُوا، فَأَعْطُوا بِأَيْدِيكُم، ولَكُمُ العَهْدُ وَالمِيثَاقُ أَنْ لا نَقْتُلَ مِنكُمْ أَحَداً، فَقالَ عَاصِمُ بنُ ثابِتٍ: أيُّها القَوْمُ أَمَّا أنَا، فَلا أَنْزِلُ عَلىٰ ذِمَّةِ كَافِرٍ، اللهم أَخْبِرْ عَنَّا نَبِيَّكَ صلى الله عليه وسلم، فَرَمَوْهُمْ بِالنَّبْلِ فَقَتَلُوا عَاصِماً، وَنَزَلَ إلَيْهِمْ ثَلاثَةُ نَفَرٍ عَلَىٰ العَهدِ والمِيثَاقِ، مِنْهُمْ خُبَيْبٌ وَزَيْدُ بْنُ الدَّثِنَةِ وَرَجُلٌ آخَرُ. فَلَمَّا اسْتَمْكَنُوا مِنْهُمْ أَطْلَقُوا أَوْتَارَ قِسيِّهمْ، فَرَبَطُوهُم بِهَا. قَالَ الرَّجُلُ الثّالِثُ: هَذَا أَوّلُ الغَدْرِ، واللهِ لا أَصْحَبُكُم، إنَّ لي بِهؤُلاءِ أُسْوَةً، يريد القَتْلىٰ، فَجَرُّوهُ وَعَالجوهُ، فَأَبىٰ أنْ يَصْحَبَهُمْ، فَقَتَلُوهُ، وَانْطَلَقُوا بِخُبَيْبٍ وزَيْدِ بنِ الدَّثِنَةِ، حَتَّىٰ بَاعُوهُما بمكَّهَ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ، فَابتَاعَ بَنُو الحَارِثِ بنِ عَامِرِ بنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ خُبَيْباً، وكانَ خُبَيبٌ هُوَ قَتَلَ الحَارِثَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَلَبِثَ خُبَيْبٌ عِنْدَهُم أسِيراً حَتّىٰ أجْمَعُوا عَلىٰ قَتْلِهِ، فَاسْتَعَارَ مِنْ بَعْضِ بَنِاتِ الحارِثِ مُوسَىٰ يَسْتحِدُّ بها فأعَارَتْهُ، فَدَرَجَ بُنَيٌّ لَها وَهِيَ غَافِلَةٌ حَتىٰ أتَاهُ، فَوَجَدَتْهُ مُجْلِسَهُ عَلىٰ فخذِهِ وَالمُوسَىٰ بِيَدِهِ، فَفزِعَتْ فَزْعَةً عَرَفَها خُبَيْبٌ، فَقَالَ: أَتخْشَيْنَ أن أَقْتُلَهُ ؟ ما كُنْتُ لأفْعَلَ ذلكَ ! قَالَتْ: واللهِ ما رَأَيْتُ أَسِيراً خَيْراً مِنْ خُبَيبٍ، فوَاللهِ لَقَدْ وَجَدْتُهُ يَوْماً يَأْكُلُ قِطْفاً مِنْ عِنَبٍ في يَدهِ، وأنَّهُ لمُوثَقٌ بِالحَدِيدِ وَما بمَكَّةَ مِنْ ثَمَرَةٍ، وَكَانَتْ تَقُولُ: إنَّهُ لَرزقٌ رَزَقَهُ اللهُ خُبَيْباً، فَلَمَّا خَرَجُوا بِهِ مِنَ الحَرَمِ لِيَقْتُلُوهُ في الحِلِّ، قالَ لَهُم خُبَيْبٌ: دَعُوني أُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، فَتَرَكُوهُ، فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ، فَقَالَ: والله لولا أَنْ تَحْسَبُوا أَنَّ مَا بي جَزَعٌ لَزِدْتُ. اللهم أَحْصِهِمْ عَدَداً، واقْتُلْهُمْ بِدَداً، ولا تُبْقِ مِنْهُم أَحَداً، وقالَ:

فَلَسْتُ أبالي حينَ أقْتَلُ مُسْلماً عَلىٰ أيِّ جَنْبٍ كَان لله مَصْرَعي

وذلكَ في ذَات الإله وَإنْ يَشَـأْ يُبـاركْ عَلَىٰ أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ

وكَانَ خُبَيْبٌ هُوَ سَنَّ لِكُلِّ مُسْلِمٍ قُتِلَ صَبْراً الصَّلاةَ، وَأَخْبَرَ ــ يعني النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم ــ أصْحابَهُ يَوْمَ أُصِيبُوا خَبَرَهُمْ، وبَعَثَ نَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ إلىٰ عاصِم بْنِ ثَابِتٍ حِينَ حُدِّثُوا أنّهُ قُتِلَ أنْ يُؤْتَوا بشَيءٍ مِنْهُ يُعْرَفُ، وَكانَ قَتَلَ رَجُلاً مِنْ عُظَمَائِهمْ، فَبَعَثَ الله لعاصِمٍ مِثْلَ الظُّلَّةِ مِنَ الدَّبْرِ فَحَمَتْه مِنْ رُسُلِهِمْ، فَلَمْ يَقْدِروا أنْ يَقْطَعُوا مِنْهُ شَيْئاً. رواه البخاري.

قَوْلُهُ: الهَدْأَةُ: موضِعٌ، والظُّلَّةُ: السَّحابُ، والدَّبْرُ: النحلُ.

وَقَوْلُهُ: «اقْتُلْهُمْ بِدَداً» بِكَسرِ الباءِ وفتحِها، فمَن كسر قال: هو جمعِ بِدَّةٍ بكسرِ الباءِ، وهي النصيب، ومعناه: اقْتُلْهُمْ حِصَصاً مُنْقَسِمَةً، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نَصِيبٌ، وَمَنْ فَتَحَ قَالَ: مَعْنَاهُ: مُتَفَرِّقِينَ في القَتْلِ وَاحِداً بَعْدَ وَاحِدٍ مِنَ التَّبْدِيدِ.

وفي البابِ أحاديثُ كَثِيرَةٌ صَحِيحَةٌ سبقتْ في مَوَاضِعِها مِن هذا الكِتابِ، منها حديثُ الغُلامِ الذي كانَ يأتي الرَّاهِبَ والسّاحِرَ، وَمِنْها حديثُ جُرَيْجٍ، وحَديثُ أصْحَابِ الغارِ الذينَ أطْبَقَتْ عَلَيْهِمُ الصّخْرَةُ، وحديثُ الرَّجُلِ الذي سَمعَ صوتاً في السَّحَابِ يقولُ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ، وغَيْرُ ذلكَ. والدَّلائِلُ في الباب كثيرَةٌ مَشْهُورةٌ، وبِالله التَّوْفِيقُ.

غريب الحديث:

عيناً: من يأتي بأخبار العدو.

الرهط: جماعة من الرجال.

نفروا لهم: خرجوا بسرعة لحربهم.

ذمة: عهد.

اقتصوا آثارهم: تتبعوا موضع أقدامهم.

أطلقوا أوتار قسيهم: حلُّوا أوتار أقواسهم.

يستحد بها: يحلق عانته بها.

جزع: خوف من الموت.

فابتاع: اشترىٰ.

درج: زحف كالصبي الصغير.

أوصال: أعضاء.

شلو: جسد.

صبراً: أن يربط ثم يقتل.

هداية الحديث:

1) إثبات كرامة الأولياء، ويظهر ذلك في عدة أمور:

أ ــ إخبار الله رسوله صلى الله عليه وسلم عن هؤلاء النفر من الصحابة.

ب ــ حماية اللهِ عاصمَ بن ثابت من هتك حرمته بقطع لحمه، وذلك بعد موته رضي الله عنه.

ج ــ الرزق الذي ساقه الله لخبيب وهو حبيس في مكة مما ليس فيها.

2) استجابة دعاء المسلم وإكرامه حياً وميتاً.

3) ينال العبد الكرامة بقدر ما عنده من العبودية والاستقامة، فأكثر الناس كرامة بعد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم هم أصحابه رضي الله عنهم، لأنهم أكثر الناس عبوديةً لله، وأكثرهم استقامةً واتباعاً لرسوله صلى الله عليه وسلم.

8/1510ــ وعن ابنِ عُمرَ رضي الله عنهما قَالَ: ما سمعتُ عُمرَ رضي الله عنه يقولُ لشيء قطُّ: إنِّي لأَظُنُّهُ كَذا إلَّا كَانَ كمَا يَظُنُّ. رواه البخاري.

هداية الحديث:

1) بيان فضل عُمرَ وصدق فراسته، وتمام عبقريته، فهو مُحدَّث ملهم، وهو من العشرة المبشرين في الجنة، وأفضل الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم والصديق، رضي الله عنهما.

2) المؤمن الصادق يرزقه الله بصيرة صادقة في تمييز الأمور.

فائـدة:

قال الحافظ الذهبي ــ رحمه الله تعالىٰ ــ موضحاً الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان:

«الله تعالىٰ يقول في أوليائه إنَّهم: {ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} [يونس: 63] وقد كان في الجاهلية خلق من الكهّان يخبرون بالمغيَّبات، والرهبان لهم كشف وإخبار بالمغيَّبات، والساحر يخبر بالمغيَّبات، وفي زماننا نساء ورجال بهم مَسٌّ من الجِنّ يخبرون بالمغيَّبات علىٰ عدد الأنفاس، وقد صنّف شيخنا ابن تيمية غير مسألة في أن أحوال هؤلاء وأشباههم شيطانية، ومن هذه الأحوال الشيطانية التي تُضلّ العامة أكل الحيات، ودخول النار، والمشي في الهواء ممن يتعاطىٰ المعاصي ويُخل بالواجبات.

فنسأل الله العون علىٰ اتباع الصراط المستقيم، وأن يُكتب الإيمان في قلوبنا، وأن يؤيدنا بروح منه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وقد يجيء الجاهل فيقول: اسكت، لا تتكلم في أولياء الله، ولم يشعر أنه هو الذي تكلم في أولياء الله وأهانهم، إذ أدخل فيهم هؤلاء الأوباش المجانين أولياء الشياطين، قال الله تعالىٰ: {وَإِنَّ ٱلشَّيَٰطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰٓ أَولِيَآئِهِم لِيُجَٰدِلُوكُم} ثم قال: {وَإِن أَطَعتُمُوهُم إِنَّكُم لَمُشرِكُونَ} [الأنعام: 121] ». (تاريخ الإسلام ، 48/329)

كتاب الأمور المنهي عنها