قال الله تعالىٰ: {فَخَلَفَ مِن بَعدِهِم خَلفٌ أَضَاعُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَٱتَّبَعُواْ ٱلشَّهَوَٰتِۖ فَسَوفَ يَلقَونَ غَيًّا * إِلَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحا فَأُوْلَٰٓئِكَ يَدخُلُونَ ٱلجَنَّةَ وَلَا يُظلَمُونَ شَئا} [ مريم: 59_60]، وقال تعالىٰ: {فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ۖ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} [القصص: 79 ــ 80] ، وقال تعالىٰ: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: 8] وقَالَ تعالىٰ: {مَّن كَانَ يُرِيدُ ٱلعَاجِلَةَ عَجَّلنَا لَهُۥ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلنَا لَهُۥ جَهَنَّمَ يَصلَىٰهَا مَذمُوما مَّدحُورا} [الإسراء: 18]. والآيات في الباب كثيرةٌ مَعْلُومَةٌ.
1) أهل الشهوات المحرمة هم المعرضون عن الله تعالىٰ، المُنَعَّمونَ في حظوظ أنفسهم.
2) أهل العلم يبصرون مواقع الفتن لما معهم من الصبر واليقين.
1/491 ــ وعن عائشَةَ رضي الله عنها قالت: مَا شَبعَ آلُ مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم مِنْ خُبْزِ شَعِيرٍ يَوْمَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، حَتَّىٰ قُبِضَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم. متفقٌ عليه.
وفي روايةٍ: مَا شَبعَ آلُ مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم مُنْذُ قَدِمَ المَدِينَةَ مِنْ طَعَامِ البُرِّ ثَلاثَ لَيَالٍ تِبَاعاً، حَتَّىٰ قُبِضَ.
آل محمَّد: المراد بهم أزواجه، ومَن يَعُولهم مِن خَدَمه.
البُرُّ: القمح.
1) إعراض الرسول صلى الله عليه وسلم وأهله عن الدنيا، وزهدهم فيها، ولوشاء لأتته وهي راغمة.
2) من ضاقت عليه الدنيا وأمر المعاش، فَلْيقتدِ بزهده وصبره عليه الصلاة والسلام.
2/492 ــ وعن عُرْوَةَ عَنْ عَائشةَ رضي الله عنها أَنّهَا كَانَتْ تَقُولُ: وَاللهِ يَا ابْنَ أُخْتِي إنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إلىٰ الهِلالِ، ثُمَّ الهِلالِ، ثم الهِلالِ؛ ثَلاثَةَ أَهِلَّةٍ في شَهْرَيْنِ، وَمَا أُوقِدَ في أَبيَاتِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم نَارٌ.قُلْتُ: يَا خالَةُ، فَمَا كَانَ يُعيشُكُمْ؟ قالت: الأَسْوَدَانِ: التَّمْرُ وَالمَاءُ، إلا أَنَّهُ قَدْ كانَ لِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم جِيرانٌ مِنَ الأَنْصَارِ، وكَانَتْ لَهُمْ مَنَائحُ، وكانُوا يُرْسِلُونَ إلىٰ رسولِ الله مِنْ أَلبَانِها، فَيَسْقِينَا. متفقٌ عليه.
منائح: الشاة أو الناقة يعطيها صاحبها غيره؛ ليشرب لبنها، ثم يردها بعد حين.
1) جواز الإخبار عن حال الإنسان في قلة متاع بيته، إذا كان في ذلك مدعاةٌ للموعظة والاعتبار، ولايقصد المسألة والتسخّط.
2) وصف الزهد الذي عاشه بيت النبوة؛ فعيشهم التمر والماء!.
3/493 ــ وعن أبي سعيدٍ المَقْبُرِيِّ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أنَّه مَرَّ بِقَوْمٍ بَينَ أَيدِيهِمْ شاةٌ مَصْلِيَّةٌ، فَدَعَوْهُ، فَأَبَىٰ أَن يَأْكُلَ، وقال: خَرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مِنَ الدُّنْيَا، وَلَمْ يَشْبَعْ مِنْ خُبْزٍ الشَّعِيرِ. رواه البخاري.
«مَصْلِيَّةٌ» بفتحِ الميم: أَيْ: مَشْوِيَّةٌ.
1) استحباب دعوة أهل الصلاح والفضل للطعام.
2) حرص الصحابة رضي الله عنهم علىٰ متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، والتخفف من الشهوات ومتاع الدنيا.
3) بيان ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من خشونة العيش، والاقتصار علىٰ القليل من المأكول والمشروب.
4/494ــ وعن أنسٍ رضي الله عنه قال: «لَمْ يَأْكُلِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلىٰ خِوَانٍ حَتَّىٰ ماتَ، ومَا أَكَلَ خُبْزاً مُرَقَّقاً حَتَّىٰ مَاتَ». رواه البخاري.
وفي روايةٍ له: «وَلا رأىٰ شَاةً سَميطاً بِعَيْنِهِ قَطُّ».
خِوان: ما يوضع عليه الطعام عند الأكل، فإذا وضع عليه طعام فهو مائدة.
شاة سميطاً: الشاة التي تُشوىٰ، وإنما يُفعل ذلك بالشاة صغيرة السِّنِّ.
1) استحباب عدم التشبه بأهل الترف والإسراف في الأكل والشرب والملبس.
2) بيان زهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدنيا، وإعراضه عن ملاذِّها، ومشاركته الفقراء في مأكلهم ومشربهم تطييباً لقلوبهم.
5/495 ــ وعن النُّعمانِ بنِ بشيرٍ رضي الله عنهم قال: «لَقَد رَأَيْتُ نَبِيَّكُمْ صلى الله عليه وسلم وَما يَجِدُ مِنَ الدَّقَلِ ما يَمْلأُ بِهِ بَطْنَهُ». رواه مسلم.
«الدَّقَلُ»: تَمْرٌ رَدِيءٌ.
1) زهد عيش النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ فقد كان لايجد كفاية، لانصرافه عن الانشغال بالملذات.
2) السعيد من رزقه الله صبراً علىٰ قلة ذات اليد، فعاش علىٰ هدي النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.
6/496 ــ وعن سهلِ بنِ سعدٍ رضي الله عنه قال: «ما رَأَىٰ رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم النَّقِيَّ مِنْ حِينَ ابتَعَثَهُ اللهُ تعالىٰ حتَّىٰ قَبَضَهُ الله، فَقِيلَ لَهُ: هَلْ كَانَ لَكُمْ في عَهْدِ رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم مَناخِلُ؟ قالَ: ما رَأَىٰ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مُنْخُلاً مِنْ حِينَ ابْتَعَثَهُ اللهُ تعالىٰ حتَّىٰ قَبَضَهُ الله تعالىٰ، فَقِيلَ لَهُ: كَيْفَ كُنْتُمْ تَأْكُلُونَ الشَّعِيرَ غَيْرَ مَنْخولٍ؟ قالَ: كُنَّا نَطْحَنُهُ وَنَنفُخُهُ، فَيَطِيرُ ما طارَ، وما بقِيَ ثَرَّيْناهُ». رواه البخاري.
قوله: «النَّقِيّ»:هو بفتح النون وكسر القاف وتشديد الياء،وهُوَ الخُبْزُ الحُوَّارَىٰ، وَهُوَ: الدَّرْمَكُ.
قوله: ثَرَّيْنَاهُ هُوَ بثاءٍ مُثَلَّثَةٍ، ثُم راءٍ مُشَدَّدَةٍ، ثُمَّ يَاءٍ مُثَنَّاةٍ مِنْ تحت، ثمَّ نونٍ، أيْ: بَلَلْنَاهُ وعَجَنَّاهُ.
النَّقِيّ: فسره المصنف بالخبز الحُوَّارىٰ: وهو الخبز الأبيض في عرفنا.
1) بيان ما كان عليه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الزهد؛ فقد كانوا يأكلون ما تيسر لهم دون تكلُّف.
2) استحباب ترك طرق أهل الترف والنعيم الزائد في المأكل والمشرب والملبس، اقتداءً بسيد ولد آدم رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحب الكرام رضي الله عنهم.
7/497 ــ وعن أبي هُريرةَ رضي الله عنه قال: خَرَجَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ذاتَ يَوْمٍ أوْ لَيلَةٍ، فإذا هُوَ بأبي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما قال: «ما أخْرَجَكُما مِنْ بُيُوتِكُما هذِهِ السَّاعَةَ؟» قالا: الجُوعُ يا رَسُولَ الله. قالَ: «وَأَنا، والَّذِي نَفْسي بِيَدِهِ، لأَخْرَجَني الَّذِي أَخْرَجَكُمَا، قُوما» فَقاما مَعَهُ، فَأَتَىٰ رَجُلاً مِنَ الأَنصَارِ، فَإذَا هُوَ لَيْسَ في بَيْتِهِ، فَلَمَّا رَأَتْهُ المَرْأَةُ قالَتْ: مَرْحَباً وَأَهْلاً، فقال لها رَسُولُ صلى الله عليه وسلم: «أَيْنَ فُلانٌ؟» قالَتْ: ذَهَبَ يَسْتَعْذِبُ لَنَا مِنَ الماءَ، إذْ جاءَ الأَنْصَارِيُّ، فَنَظَرَ إلىٰ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وصَاحِبَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «الحَمْدُ لله، ما أَحَدٌ اليَوْمَ أَكْرَمَ أَضْيافاً مِنِّي، فانْطَلق فَجاءَهمْ بِعِذْقٍ فِيهِ بُسْرٌ وَتَمْرٌ ورُطَبٌ، فقالَ: كُلُوا، وَأَخَذَ المُديَةَ، فَقالَ لَهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إيَّاكَ وَالحَلُوبَ» فَذَبَحَ لَهُمْ، فَأَكَلُوا مِنَ الشَّاةِ، وَمِنْ ذلِكَ العِذْقِ، وشَرِبُوا. فَلَمَّا أَنْ شَبِعُوا وَرَوُوا قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لأبي بَكْرٍ وعُمَر رضي الله عنهم : «وَالَّذِي نَفْسي بِيَدِهِ، لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هذَا النَّعِيم يَوْمَ القِيَامَةِ، أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمُ الجُوعُ، ثُمَّ لَمْ تَرْجِعُوا حَتَّىٰ أَصَابَكُمْ هذا النَّعِيمُ». رواهُ مسلم.
«يَسْتَعْذِبُ»: أَيْ: يطلب الماء العذب، وهو الطيب. و«العِذْق»: بكسر العين وإسكان الذال المعجمة: وهو الكِباسة، وهي العصن. و«المُدية»: بضم الميم وكسرها، وهي السكين. و«الحَلوب»: ذات اللبن. والسؤال عن هذا النعيم سؤال تعديد النعم، لا سؤال توبيخ وتعذيب، والله أعلم.
وهذا الأنصاري الذي أتوه هو: أبو الهيثم ابن التيهان رضي الله عنه، كذا جاء مبيّناً في رواية الترمذي وغيره.
بُسْر: البلح من ثمر النخل.
الرطب: ثمر النخل قبل أن يجف.
1) خير رجال هذه الأمة قد أخرجهم الجوع من بيوتهم. فيا أيها الفقير لا تحزن!.
2) كل مايتمتع به الإنسان في الدنيا هو من النعيم الذي يُسأل عنه العباد.
3) إباحة التمتع بالطيبات، مع وجوب القيام بشكرها، وتحريم الإسراف.
8/498 ــ وعن خالدِ بن عُمَرَ العَدَوِيِّ قال: خَطَبَنَا عُتْبَةُ بنُ غَزوَانَ، وكانَ أَمِيراً عَلىٰ البَصْرَةِ، فَحَمِدَ اللهَ وأَثْنَىٰ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمّا بَعْدُ، فَإنَّ الدُّنْيَا قَدْ آذَنَتْ بصُرْمٍ، وَوَلتْ حَذَّاءَ، وَلمْ يَبْقَ مِنها إلا صُبَابَةٌ كَصُبَابَةِ الإناءِ، يَتَصَابُّها صاحِبُها، وإنَّكُمْ مُنْتقِلُونَ مِنْها إلىٰ دارٍ لا زَوَالَ لَها، فَانْتَقِلُوا بِخَيْرِ ما بحَضرَتكُمْ، فَإنَّهُ قَدْ ذُكِرَ لَنا أَنَّ الحَجَرَ يُلْقَىٰ مِنْ شَفِيرِ جَهَنَّمَ، فَيَهْوِي فِيها سَبْعِينَ عاماً، لا يُدْرِكُ لَها قَعْراً، وَالله لَتُمْلأَنَّ. أَفَعَجِبْتُمْ؟ ولَقَدْ ذُكِرَ لَنا أَنَّ ما بَيْنَ مِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الجَنَّةِ مَسِيرَةَ أَرْبَعِينَ عاماً، وَلَيَأْتِيَنَّ عَلَيْهِ يَوْمٌ، وهُوَ كَظِيظٌ مِنَ الزِّحَامِ، وَلَقَدْ رَأَيْتُنِي سابع سَبْعَةٍ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، ما لَنا طَعامٌ إلا وَرَقُ الشَّجَرِ، حتىٰ قَرِحَتْ أَشْدَاقُنا، فالْتَقَطْتُ بُرْدَةً، فَشَقَقْتُها بَيْني وبَيْنَ سَعْدِ بنِ مالك، فَاتَّزَرْتُ بِنصْفِها، واتَّزَر سَعْدٌ بِنِصْفِها، فَمَا أَصْبَحَ اليَوْمَ مِنَّا أَحَدٌ إلا أَصبَحَ أَمِيراً عَلىٰ مِصْر مِنَ الأمْصَارِ، وَإنِّي أَعُوذُ بالله أَنْ أَكُونَ في نَفْسي عَظيماً، وَعِنْدَ الله صَغِيراً. رواهُ مسلم.
قوله: «آذَنَتْ» هُوَ بمَدِّ الألفِ، أيْ: أَعْلَمت. وقوله: «بِصُرْمٍ»: هو بضم الصاد، أي: بانْقِطاعِها وفَنائِها. وقوله: «ووَلَّتْ حذَّاءَ» هو بحاءٍ مهملةٍ مفتوحَةٍ، ثمَّ ذَال مُعْجَمة مشدَّدة، ثمَّ أَلِف مَمْدُودَة، أيْ: سَرِيعَةً. وَ«الصُّبَابَةُ» بضم الصاد المهملة: وهي البَقيَّةُ اليَسِيرَةُ. وقولُهُ: «يَتَصَابُّها» هو بتشديد الباءِ قبل الهاءِ، أيْ: يجْمَعُها. و«الكَظِيظ»: الكَثيرُ المُمْتَلىٰءُ. وقوله: «قَرِحَتْ» هو بفتحِ القاف وكسر الراءِ، أي: صارَتْ فيها قُرُوح.
شفير جهنم: حرفها الأعلىٰ.
مصراعين: المصراع: هو فتحة الباب، ولكل باب مصراعان.
أشداقنا: جمع شِدْق، وهو جانب الفم.
بردة: شملة يلتحف بها.
1) الحثّ علىٰ نصيحة الإخوان، وترغيبهم بالخير، وتخويفهم من عذاب الآخرة.
2) تجليةُ الموعظة العظيمة للأمة: إن من يحمل هم الآخرة لاينبغي له المكاثرة من الدنيا، فمن رغب في الدنيا أضر بالآخرة، ومن رغب في الآخرة أضر بالدنيا.
3) بيان حال رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة السابقين للإسلام رضي الله عنهم ، فما فُتحت الدنيا لأناس فتحوا قلوبهم علىٰ الشهوات، ولو كانت مباحة!.
9/499 ــ وعن أبي موسىٰ الأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه قال: أَخْرَجَتْ لَنا عَائِشَةُ رضي الله عنها كِساءً وَإزاراً غَلِيظاً قالَتْ: قُبِضَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم في هذينِ. متفقٌ عليه.
1) وصف لباس معلِّم الخير صلى الله عليه وسلم؛ حيث كان خشناً غليظاً. فأين المُنعمون من أهل الدنيا..؟!
2) إظهار زهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتواضعه، وقناعته، فقد كان يلبس ما اتفق، دون إسراف ولا مخيلة.
الصواب في راوي الحديث: عن أبي بردة عن أبي موسىٰ الأشعري، كما في البخاري ومسلم.
10/500 ــ وعنْ سَعد بن أبي وَقَّاص رضي الله عنه قال: «إنِّي لأَوَّلُ العَرَبِ رَمىٰ بِسَهْمٍ في سَبيلِ الله، وَلَقَدْ كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ما لَنَا طَعَامٌ إلا وَرَقُ الحُبْلَةِ، وَهذَا السَّمُرُ، حَتَّىٰ إنْ كانَ أَحَدُنا لَيَضَعُ كما تَضَعُ الشاةُ، مالَهُ خِلْطٌ» متفق عليه.
«الحُبْلَة» بضم الحاء المهملة وإسكان الباءِ الموحدةِ: وهيَ والسَّمُرُ، نَوْعَانِ مَعْرُوفانِ مِنْ شَجرِ البَادِيَةِ.
ليضع: كناية عن الغائط.
ما لَه خِلط: لايختلط بعضه ببعض، لشدة جفافه.
1) جواز التحدث بنعمة الله، وذكر عمل الطاعات إذا قصد منها موعظة الناس ونصحهم.
2) صبر الصحابة رضي الله عنهم علىٰ خشونة العيش من أجل رفع راية الإسلام. ومن أراد حمل الدين فقُدْوَتُهُ الصحابة رضي الله عنهم.
11/501 ــ وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهمَّ اجْعَل رِزقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتاً». متفقٌ عليه
قال أَهْلُ اللّغَة والْغَرِيبِ مَعْنَىٰ «قُوتاً» أَيْ: مَا يَسُدُّ الرَّمَقَ.
1) من علامة سعادة العبد القناعة بالقليل، الذي يَكْفيه ويَكفّه عن الحاجة والمسألة.
2) الطريقة النبوية المحمودة هي الوسط؛ كفاية حاجة الإنسان، من غير إسراف ولا تقتير.
8) إن سؤال الكفاية مع الاستعاذة من الفقر، هو هدي النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.
12/502ــ وعن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: وَالله الذي لا إلهَ إلا هُوَ، إنْ كُنتُ لأَعْتَمِد بِكَبِدِي عَلىٰ الأَرْضِ مِنَ الجُوعِ، وَإنْ كُنْتُ لأَشُدُّ الحَجَر عَلىٰ بَطْني مِنَ الجُوعِ، وَلَقَدْ قَعَدْتُ يَوْماً عَلىٰ طَرِيقِهِمُ الذي يَخْرُجُونَ مِنْه، فَمَرَّ بِيَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، فَتَبَسَّمَ حِينَ رآني، وَعَرَفَ مَا في وَجْهي وَمَا في نَفْسِي، ثُمَّ قَال: «أبا هِرّ» قلت: لبَّيْكَ يا رسولَ الله، قال: «إلْحَقْ» وَمَضَىٰ، فَاتَّبَعْتُهُ، فَدَخَلَ، فَاسْتَأْذَنَ، فَأَذِنَ لي: فَدَخَلْتُ، فَوَجَدَ لبناً في قَدَح، فقال: «مِنْ أَيْنَ هذَا اللَّبَنُ؟» قالوا: أَهْداهُ لَكَ فُلانٌ ـ أوْ فُلاَنةٌ ـ قال: «أبا هِرّ» قلتُ: لَبَّيْكَ يارسولِ الله، قال: إلْحَقْ إلىٰ أَهْلِ الصُّفَّةِ فَادْعُهُمْ لي قال: وَأَهْلُ الصُّفَّةِ أَضْيَافُ الإسْلاَمِ، لا يَأْوُونَ عَلَىٰ أَهْلٍ، وَلا مَالٍ، وَلا عَلىٰ أَحَد، وكَانَ إذَا أَتَتْهُ صَدَقَةٌ بَعَثَ بِهَا إلَيْهِمْ، وَلَمْ يَتَنَاوَلْ مِنْهَ شَيئاً، وَإذَا أَتَتْهُ هَدِيَّةٌ أَرْسَلَ إلَيْهِمْ، وَأَصَابَ مِنْهَا، وَأَشْرَكَهُمْ فِيهَا، فَسَاءَني ذلِكَ، فَقُلْتُ: وَمَا هذا اللَّبَنُ في أَهلِ الصُّفَّةِ! كُنْتُ أَحَقَّ أَنْ أُصِيبَ مِنْ هَذَا اللَّبَنِ شَرْبَةً أَتَقَوَّىٰ بِهَا، فَإذا جَاؤُوا وأَمَرني، فَكُنْتُ أنا أُعْطِيهِم، وَمَا عَسَىٰ أَنْ يَبْلُغَني مِنْ هذا اللَّبَنِ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ طَاعَةِ الله وَطَاعَةِ رسولِه صلى الله عليه وسلم بُدٌّ، فأَتَيْتُهُمْ، فَدَعَوْتُهُمْ، فَأَقْبَلُوا، وَاسْتَأْذَنُوا، فَأَذِنَ لَهُمْ، وَأَخَذُوا مَجَالِسَهُمْ مِنَ الْبَيْت، قال: «يَا أبا هِرٍّ»، قلتْ: لَبَّيْكَ يا رسولَ الله، قال: «خُذْ فَأَعْطِهِمْ» قال: فَأَخَذْتُ الْقَدَحَ، فَجَعَلْتُ أُعْطِيهِ الرَّجُلَ، فَيَشْرَبُ حَتَّىٰ يَرْوَىٰ، ثُمَّ يَرُدُّ عَليَّ الْقَدَحَ، فَأُعْطِيهِ الرَّجُلَ، فَيَشْرَبُ حَتَّىٰ يَرْوَىٰ، ثمَّ يَرُدُّ عليَّ القَدَحَ، حَتىٰ انْتَهَيْتُ إلىٰ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ رَوِيَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ، فَأَخَذَ الْقَدَحَ، فَوَضَعَهُ عَلىٰ يَدِهِ، فَنَظَرَ إليَّ، فَتبَسَّمَ، فقال: «أبا هِرٍّ»، قلتُ: لَبَّيْكَ يا رسولَ الله، قال: «بقيتُ أنا وَأَنْتَ» قلتُ: صَدَقْتَ يا رسولَ الله، قال: «اقْعُدْ، فَاشْرَبْ»، فَقَعَدْتُ، فَشَرِبْتُ: «اشْرَبْ»، فَشَرِبْتُ، فَمَا زَالَ يَقُولُ: «اشْرَبْ» حَتَّىٰ قُلْتُ: لا، وَالَّذي بَعَثَكَ بالحَقِّ، ما أَجِدُ لَهُ مَسْلَكاً! قال: «فَأَرِنِي» فَأَعْطَيْتُهُ الْقَدَحَ، فَحَمِدَ الله، وسَمَّىٰ، وَشَرِبَ الْفَضْلَةَ. رواه البخاري.
مسلكاً: مكاناً يسلك فيه.
1) اهتمام الرسول الله صلى الله عليه وسلم بأهل الحاجة من أصحابه رضي الله عنهم، وتفقد أحوالهم.
2) سادات الأمة، وهم الصحابة رضوان الله عليهم، كان أكثرهم الفقراء، فلا عيب في الفقر مع الإيمان، وقَبـَّح الله الغنىٰ مع الكفر.
13/503 ــ وعن مُحَمَّدِ بنِ سِيرِين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «لَقَدْ رَأَيْتُني وَإنِّي لأخِرُّ فِيمَا بَيْنَ مِنْبَرِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، إلىٰ حُجْرَةِ عَائِشَةَ رضي الله عنها مَغْشِيّاً عَلَيَّ، فَيَجِيءُ الجَائي، فَيَضَعُ رِجْلَهُ عَلىٰ عُنُقِي، وَيَرَىٰ أنِّي مَجْنُونٌ وَمَا بي مِنْ جُنُونٍ، مَا بي إلا الجُوعُ». رواه البخاري.
أَخِرُّ: أسقط.
مغشياً عليّ: مغمىٰ عليه.
1) صبر الصحابة رضي الله عنهم علىٰ الفقر والجوع، وتعفُّفهم عن سؤال الناس.
2) لا يكون العزُّ والرفعة إلا بعد امتحان واختبار؛ فأبو هريرة رضي الله عنه صار أميرَ المؤمنين في الحديث، وحافظ السُّنَّة في الأمة، بعد صبره علىٰ الجوع والتعب؛ ولهذا قال إمامنا الشافعي ــ رحمه الله تعالىٰ ــ: «لا يُمكَّن الرجل حتىٰ يُبتلىٰ».
14/504 ــ وعن عائشة رضي الله عنها قَالَتْ: «تُوفِّيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يهُودِيٍّ في ثَلاثِينَ صَاعاً مِنْ شَعير». متفقٌ عليه.
الدرع: ما يلبس في الحرب، وهو من الحديد.
مرهونة: محبوسة بسبب دَيْنٍ.
1) بيان زهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدنيا، وعدم استكثاره من أموالها أو انشغاله بحُطامها، ولو شاء لأتته الدنيا وهي راغمة، ولسارت معه جبال الذهب، ولكنه كان صلى الله عليه وسلم عبداً رسولاً.
2) جواز التعامل مع الكافر بالبيع والشراء، ونحو ذلك من المعاملات المالية.
15/505 ــ وعن أنَسٍ رضي الله عنه قال: رَهَنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم دِرعَهُ بِشَعِير، وَمَشَيْتُ إلىٰ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بخُبْزِ شَعِيرٍ، وَإهَالَةٍ سَنِخَةٍ، وَلَقَدْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «مَا أَصْبَحَ لآلِ مُحَمَّدٍ صَاعٌ وَلا أَمْسَىٰ»، وَإنَّهُم لَتِسْعَةُ أبْيَاتٍ. رواه البخاري.
«الإهَالَةُ» بكسر الهمزة: الشَّحْم الذَائِبُ. وَ«السَّنِخَةُ» بِالنون والخاءِ المعجمة، وَهيَ: المُتَغَيِّرَة.
1) صبر الرسول صلى الله عليه وسلم وأهل بيته علىٰ ضيق العيش، وقناعتهم باليسير.
2) أكرمُ أهلِ بيتٍ علىٰ الله هم بيوت أمهات المؤمنين، يصبحون ويمسون وما في بيوتهن ما يأكلنه! فأين المؤمنون المعتبرون؟!
16/506 ــ وعن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: «لَقَدْ رَأَيْتُ سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ، ما مِنْهُمْ رَجُلٌ عَلَيْه ردَاءٌ، إمَّا إزَارٌ وَإمّا كِسَاءٌ، قَدْ رَبَطُوا في أَعْنَاقِهِم، فمِنهَا ما يَبْلُغُ نِصفَ السَّاقَين، وَمِنهَا ما يَبْلُغُ الكَعبَينِ، فَيَجمَعُهُ بِيَدِهِ كَراهِيَةَ أَنْ تُرَىٰ عَوْرَتُهُ». رواه البخاري.
1) النعيم لايُدرك إلا بترك النعيم؛ فأهل الصُّفة، وهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما أدركوا نعيم الإيمان إلا بترك الترفه في نعيم الدنيا.
2) الفقر لا يمنع الرجل من الوصول إلىٰ القمم، ولا يحزن امرؤ علىٰ فقره، وإنما لِيَبْكِ علىٰ ضعف الهممّ.
17/507 ــ وعن عائشةَ رضي الله عنها قالت: «كَانَ فِرَاشُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم مِنْ أُدْمٍ، حَشْوُهُ مِنْ لِيفٍ». رواه البخاري.
أدْم: جلد.
1) تواضع الرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإعراضه عن متاع الدنيا، مع تمام الرضا والتسليم لقدر الله تعالىٰ.
2) إمام الزاهدين كان فراشه أدماً وليفاً، فأين المقتدون بزهد رسول الله صلى الله عليه وسلم!.
18/508 ــ وعن ابنِ عمرَ رضي الله عنهما قال: كُنَّا جُلُوساً مَعَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، إذْ جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَدبَرَ الأَنْصَارِيُّ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «يَا أَخَا الأَنْصَارِ، كَيْفَ أَخِي سَعْدُ بنُ عُبَادَةَ؟» فقال: صَالحٌ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ يَعُودُهُ مِنْكُمْ؟» فَقَامَ، وَقُمْنَا مَعَهُ، وَنَحْنُ بضْعَةَ عَشَرَ، ما عَلَيْنَا نِعاَلٌ، وَلا خِفَافٌ، ولا قَلانِسُ، وَلا قُمُصٌ، نَمشِي في تلكَ السِّبَاخِ، حَتَّىٰ جِئْنَاهُ، فاسْتَأْخَرَ قَوْمُهُ مِن حَوْلهِ، حَتَّىٰ دَنَا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ الَّذِينَ مَعَهُ. رواه مسلم.
قلانس: ما يلبس علىٰ الرأس.
السباخ: جمع سبخة، وهي: الأرض التي لاتنبت.
1) بيان زهد الصحابة رضي الله عنهم وتقللهم في الملبس، وصبرهم علىٰ شدة الفقر وخشونة العيش.
2) الزاد واللباس الحقيقي هو لباس التقوىٰ، فانظر إلىٰ هؤلاء الصحب الكرام رضوان الله عليهم كيف فقدوا لباس الدنيا، ولكن قلوبهم ملأىٰ بالإيمان والهدىٰ.
19/509 ــ وعن عِمْرانَ بنِ الحُصَينِ رضي الله عنهم عنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «خَيْرُكُمْ قَرنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُم، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُم ــ قال عِمرَانُ: فَمَا أَدْرِي قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مَرَّتَيْن أَو ثَلاثاً ــ ثُمَّ يَكُونُ بَعْدَهُمْ قَوْمٌ يَشْهَدُونَ ولا يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَخُونُونَ وَلا يُؤْتَمَنُون، وَيَنْذِرُونَ وَلا يُوفُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ». متفقٌ عليه.
1) بيان خيرية القرون الثلاثة علىٰ من بعدهم، وهم الصحابة والتابعون وأتباع التابعين رضي الله عنهم.
2) من علامات القرون المفضلة الأولىٰ: الاستمساك بخصال الإيمان الصادق، وترك الترفُّه في الدنيا، وعدم الإكثار من المـأكل والمشرب.
8) ظهور البدانة والسمن في القرون المتأخرة، دليل النقص الحاصل فيهم؛ لابتعادهم عن صفات المؤمنين الصادقين وركونهم إلىٰ ملذات الدنيا.
20/510 ــ وعن أبي أُمامةَ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «يَا ابْنَ آدَمَ: إنَّكَ أنْ تَبْذُلَ الفَضْلَ خَيْرٌ لَكَ، وَأَن تُمْسِكَهُ شَرٌّ لَكَ، وَلا تُلامُ عَلىٰ كَفَافٍ، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ». رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
الفضل: الزائد عن الحاجة.
ولا تلام: لا يلحقك لوم ولاعتاب في الشرع.
من تعول: من تلزمك نفقتهم من زوجة وولد ونحوهم.
1) الحث علىٰ الإنفاق في سبيل الله، فهو الباقي المدّخر.
2) خير الأمور أوسطها، وهو ما سَدَّ الحاجة دون مسألة ولا إسراف.
8) أفضل الصدقة علىٰ الأهل والأقربين، لأن فيها صلة وصدقة.
21/511 ــ وعن عُبَيد الله بنِ مِحْصَنٍ الأنْصَارِيِّ الخَطميِّ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِناً في سربِهِ، مُعَافىًٰ في جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَومِهِ، فكَأنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا». رواه الترمذي وقال: حديث حسنٌ.
«سِرْبِهِ» بكسر السين المهملة، أي: نَفْسِهِ، وَقِيْلَ: قَوْمِهِ.
بحذافيرها: بجميع جوانبها.
1) الأمان في البلاد، وتحصيل العافية، والرزق، خير مايكون من نعيم الدنيا الفانية.
2) حثُّ المؤمنين علىٰ جعل الدنيا ممراً لامقراً، وقد استخلفنا الله فيها لنعبُرها، لا لنعمُرها، ونخرب آخرتنا بها، وننسىٰ دار الوطن في الجنة.
22/512 ــ وعن عبدِ الله بن عمرو بنِ العاصِ رضي الله عنهما أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ، وَكَانَ رِزْقُهُ كَفَافاً، وَقَنَّعَهُ اللهُ بِمَا آتاهُ». رواه مسلم.
23/513 ــ وعن أبي مُحَمَّدٍ فَضالَةَ بن عُبَيْدٍ الأَنصَارِيّ رضي الله عنه أنّهُ سَمعَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «طُوبَىٰ لِمَنْ هُدِيَ إلىٰ الإسْلامِ، وَكَانَ عَيْشُهُ كَفَافاً، وَقَنعَ». رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
طوبىٰ: أفلح. وقد ورد في الحديث أن: «طوبىٰ شجرة في الجنة مسيرة مائة عام». رواه أحمد.
1) علامة التوفيق والفلاح: الرضا بما قسم الله للعبد من رزق.
2) أعظم النِّعَم نعمة الإيمان والهداية، ونعمة العافية.
8) الرزقُ الكفاف علامةٌ علىٰ فلاح العبد، وتوفيق الله تعالىٰ له، فيا مَنْ ابتلاه الله بالفقر: لاتحزن!.
24/514 ــ وعن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَبِيتُ اللَّيَاليَ المُتَتَابِعَةَ طَاوِياً، وَأَهْلُهُ لا يَجِدُونَ عَشَاءً، وَكَانَ أَكْثَرُ خُبْزِهِمْ خُبْزَ الشَّعِيرِ. رَواه الترمذي وقال: حديثٌ حسنٌ صحيح.
طاوياً: خالي البطن لم يأكل.
1) بيان زهده صلى الله عليه وسلم، وصبره علىٰ شدة الحال.
2) فضيلة أمهات المؤمنين رضي الله عنهم في الصبر علىٰ شدة العيش، لأنهنَّ كُنَّ في نعيم الإيمان.
25/515 ــ وعن فَضالَةَ بن عُبَيْدٍ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانَ إذَا صَلَّىٰ بِالنَّاسِ، يَخِرّ رِجَالٌ مِنْ قَامَتِهِمْ في الصَّلاَةِ مِنَ الخَصَاصَةِ ــ وَهُمْ أَصحَابُ الصُّفَّةِ ــ حَتَّىٰ يَقُولَ الأَعْرَابُ: هؤُلاَءِ مَجَانِينُ، فَإذَا صلَّىٰ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم انْصَرَفَ إلَيْهِمْ، فقال: «لَوْ تَعْلَمُونَ مَا لَكُمْ عِنْدَ الله تعالىٰ، لأَحْبَبْتُمْ أَنْ تَزْدَادُوا فَاقَةً وَحَاجَةً». رواه الترمذي، وقال: حديث صحيح.
«الخَصَاصَةُ»: الْفَاقَةُ وَالجُوعُ الشَّدِيدُ.
1) حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم علىٰ تطييب قلوب أصحابه رضي الله عنهم، وهو المعلم القدوة عليه الصلاة والسلام.
2) إنما يضعف العبد عن العمل؛ لجهله بعظم الأجر والثواب، ولو عَلِم حقيقة ما طَلَب ما ضعف عن العمل «ومن يعرف المطلوب يحقر ما بذل».
26/516 ــ وعن أبي كَريمَةَ المِقْدَامِ بن مَعْدِ يَكَرِبَ رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَا مَلأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّاً مِنْ بَطنٍ، بِحَسْبِ ابنِ آدَمَ أَكُلاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإنْ كًانَ لا مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ، وَثلُثٌ لِشَرَابِهِ، وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ». رواه الترمذي وقال: حديث حسن.
«أُكُلاتٌ» أَيْ: لُقَمٌ.
1) وصية نبوية عظيمة في حفظ الصحة، بالاقتصاد في المأكل والمشرب ﴿ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ﴾ وهذا ينجي العبد من مسببات الأمراض.
2) بيان الهدي النبوي في كيفية الأكل والشرب، وهذا من كمال هذه الشريعة المباركة؛ فقد علمت أتباعها كيف يأكلون؟!.
27/517 ــ وعن أَبي أُمَامَةَ إيَاسِ بن ثَعْلَبةَ الأنصَارِيِّ الحَارثيِّ رضي الله عنه قال: ذَكَرَ أَصْحَابُ رَسولِ الله صلى الله عليه وسلم يَوْماً عِنْدَهُ الدُّنْيَا، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «أَلا تَسْمَعُونَ؟ أَلا تَسْمَعُونَ؟ إنَّ الْبَذَاذَةَ مِنَ الإيمَانِ، إنَّ البَذَاذَةَ مِنَ الإيمَانِ» يَعْني: التَّقحُّلَ. رواه أبو داود.
«الْبَذَاذَةُ»: بِالْبَاءِ المُوحَّدَةِ وَالذّالَيْنِ المُعْجَمَتَيْنِ، وَهِيَ رَثاثَةُ الهَيْئَةِ، وَتَرْكُ فَاخِرِ اللِّبَاسِ. وَأمَّا «التَّقحُّلُ» فَبِالْقَافِ وَالحَاءِ، قال أَهْلُ اللُّغَةِ: المُتَقَحِّلُ: هُوَ الرَّجُلُ الْيَابِسُ الجِلدِ مِنْ خُشُونَةِ الْعَيشِ، وَتركِ التَّرَفُّهِ.
1) الحثّ علىٰ التواضع، والتقلل من الدنيا؛ لأن ذلك يبعث الهمة علىٰ العبادة والطاعة، وهذا هو شأن المؤمن الراغب في الآخرة.
2) ليس المقصود من هذا الهدي النبوي ترك النظافة والتجمل، فالإسلام دعا إلىٰ الطهارة والتزيّن، ولكن من غير مبالغة، وخير الأمور أوسطها.
28/518 ــ وعن أبي عبد الله جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: بَعَثَنَا رسولُ صلى الله عليه وسلم، وَأَمَّرَ عَلَيْنَا أَبَا عُبَيْدَةَ رضي الله عنه، نتَلَقَّىٰ عِيراً لِقُرَيْشٍ، وَزَوَّدَنَا جِرَاباً مِنْ تَمْرٍ لَمْ يَجِدْ لَنَا غَيرَهُ، فَكَانَ أَبـُو عُـبَيْدَةَ يُعْطِينَا تَمْرَةً تَمْرَةً، فَقِيلَ: كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ بِها؟ قال: نَمَصها كَمَا يَمَصُّ الصَّبِيُ، ثُمَّ نَشْرَبُ عَلَيْهَا المَاءَ، فَتكْفِينَا يَوْمَنَا إلىٰ اللَّيْلِ، وَكُنَّا نَضْرِبُ بِعِصِيِّنَا الخَبَطَ، ثُمَّ نَبُلُّ بِالمَاءِ فَنَأْكُلُهُ. قال: وَانْطَلَقْنَا عَلىٰ سَاحِلِ الْبَحْرِ، فَرُفعَ لَنَا عَلَىٰ سَاحِلِ الْبَحْرِ كَهَيْئَةِ الْكَثِيبِ الضَّخْمِ، فَأَتَيْنَاهُ فَإذَا هِيَ دَابَّةٌ تُدْعَىٰ الْعَنبَرَ، فقال أَبـُو عُـبَيْدَةَ: مَيْتَةٌ، ثُمَّ قَال: لا، بَلْ نحْنُ رُسُلُ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، وفي سبيلِ الله، وَقَدِ اضْطُرِرْتُمْ، فَكُلُوا، فَأَقَمْنَا عَلَيْهِ شَهْراً، وَنَحْنُ ثَلاثُمائةٍ، حَتَّىٰ سَمِنَّا، وَلَقَدْ رَأيْتُنَا نَغْتَرِفُ مِنْ وَقْب عَيْنِهِ بِالْقِلاَلِ الدُّهْنَ، وَنَقطَعُ مِنهُ الْفِدَرَ كالثَّوْرِ أَوْ كَقَدْرِ الثَّوْرِ، وَلَقَدْ أَخَذَ مِنَّا أَبُو عُبَيْدَةَ ثَلاَثَةَ عَشَرَ رَجُلاً، فَأَقْعَدَهُمْ في وَقْبِ عَيْنِه،ِ وَأَخَذَ ضِلعاً مِنْ أَضْلاعِهِ، فَأَقَامَهَا، ثُمَّ رَحَلَ أَعْظَمَ بَعِيرٍ مَعَنَا، فَمَرَّ مِنْ تَحْتِهَا، وتَزَوَّدْنَا مِنْ لَحْمِهِ وَشَائِقَ. فَلَمَا قَدِمْنَا المَدِينَةَ أَتَيْنَا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فَذَكَرْنَا ذلِكَ له، فقال: «هُوَ رِزْقٌ أَخْرَجَهُ اللهُ لَكُمْ، فَهَلْ مَعَكُمْ مِنْ لَحْمِهِ شَيء فَتُطْعِمُونَا؟ فَأَرْسَلْنَا إلىٰ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم مِنْهُ، فَأَكَلَهُ». رواه مسلم.
«الجِرَابُ»: وِعَاء مِنْ جِلْدٍ مَعْرُوف، وَهُوَ بكَسر الجِيمِ وفتحِها، والكسرُ أَفْصحُ.
قوله: «نَمَصُّها» بفتحِ الميم. «والخَبَطُ»: وَرَقُ شَجَرٍ مَعْرُوفٍ تَأْكُلُهُ الإبلُ. «وَالكَثِيبُ»: التَّلُّ مِنَ الرمْلِ. و«الوَقْبُ»: بفتحِ الواوِ وإسكان القافِ بعدها باءٌ موحدةٌ، وَهُوَ نُقْرَةُ العَيْنِ. و«القِلالُ»: الجِرَارُ. وَ«الفِدَرُ»: بكسرِ الفاءِ وفتحِ الدالِ: القِطَعُ. «رَحْلَ البَعِيرَ» بتخفيفِ الحاءِ: أَيْ جَعَلَ عَلَيْهِ الرَّحْلَ. «الوَشَائِقُ» بالشينِ المعجمةِ وَالقَاف: اللَّحْمُ الَّذي اقْتُطعَ لِيُقدَّدَ مِنْه، والله أعلم.
عيراً: القافلة من الجمال التي تحمل الطعام.
العنبر: حوت عظيم.
1) بيان زهد الصحابة رضي الله عنهم في الدنيا، وصبرهم علىٰ الجوع وخشونة العيش من أجل إبلاغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
2) إكرام الله سبحانه، ورعايته صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ ساق لهم رزقاً حسناً لمَّا علم صدقَ صبرهم في طاعة الله. وهذا هو موقف المؤمن، يصبر حتىٰ يأتي الله بفرجٍ من عنـده {وَبَشِّرِ ٱلصَّٰبِرِينَ}.
29/519 ــ وعن أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزيدَ رضي الله عنها قالت: «كان كُمُّ قَمِيصِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إلىٰ الرُّصْغِ». رواه أبو داود، والترمذي، وقال: حديث حسن[2].
«الرُّصْغُ» بالصادِ وَالرَّسْغُ بالسينِ أيضاً: هوَ المَفْصِلُ بَيْنَ الكَفِّ والسَّاعِدِ.
1) الحضّ علىٰ عدم تطويل الثياب؛ لأن هذا يؤدي إلىٰ الخيلاء.
2) من علامة الزاهدين عدم إطالة الثياب والتفاخر بها.
30/520 ــ وعن جابر رضي الله عنه قال: إنَّا كُنَّا يَوْمَ الخَنْدَقِ نَحْفرُ، فَعَرَضَتْ كُدْيَةٌ شَدِيدَةٌ، فَجَاؤُوا إلىٰ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقالوا: هذِهِ كُدْيَةٌ عَرَضَتْ في الخَنْدَقِ، فقال: «أَنَا نَازِلٌ»، ثُمَّ قَامَ، وَبَطْنُهُ مَعْصُوبٌ بِحَجَرٍ، وَلَبِثْنَا ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ لا نَذُوقُ ذَوَاقاً، فَأَخَذَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم المِعْوَلَ، فَضَرَبَ، فَعَادَ كَثِيباً أَهْيَلَ، أَوْ أَهْيَمَ، فقلتُ: يا رسولَ الله، ائْذنَ لي إلىٰ البَيْتِ، فقلتُ لامْرَأَتِي: رأيتُ بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم شَيْئاً ما في ذلِكَ صَبْرٌ، فَعِنْدَكِ شَيْءٌ؟ فقالت: عِنْدِي شَعِيرٌ وَعَنَاقٌ، فَذَبَحْتُ العَنَاق، وطَحَنَتْ الشَّعِيرَ حَتَّىٰ جَعَلْنَا اللَّحمَ في البُرْمَةِ، ثُم جئْتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، وَالعَجِينُ قَدِ انْكَسَرَ، والبُرمَةُ بَيْنَ الأثافِيِّ قَد كَادَتْ تَنْضِجُ، فقلتُ: طُعَيِّمٌ لي، فَقُمْ أَنْتَ يا رسولَ الله وَرَجُلٌ أَوْ رَجُلانِ، قال: «كَمْ هُوَ؟» فَذَكَرْتُ له، فقال: «كَثِيرٌ طَيِّبٌ، قُل لَهَا لا تَنْزِعِ البُرْمَةَ، ولا الخُبْزَ مِنَ التَّنُّورِ حَتَىٰ آتِي»، فقال: «قُومُوا»، فقام المُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ، فَدَخَلْتُ عَليها فقلت: وَيْحَكِ، جَاءَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وَالمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ وَمَن مَعَهُم! قالت: هل سَأَلَكَ؟ قلتُ: نعم. قال: «ادْخُلُوا وَلا تَضاغَطُوا» فَجَعَلَ يَكْسِرُ الخُبْزَ، وَيَجْعَلُ عَلَيْهِ اللَّحْمَ، وَيُخَمِّرُ البُرْمَةَ والتَّنُّورَ إذا أخَذَ مِنهُ، وَيُقَرِّبُ إلىٰ أَصْحَابِهِ ثُمَّ يَنْزِعُ، فَلَمْ يَزَلْ يَكْسِرُ وَيَغْرِفُ حَتَّىٰ شَبِعُوا، وَبقِيَ مِنْهُ، فقال: «كُلِي هذَا وَأَهدِي، فَإنَّ النَّاسَ أَصَابَتْهُمْ مَجَاعَةٌ». متفقٌ عليه.
وفي روايةٍ: قال جابر: لمَّا حُفِر الخَنْدَقُ رَأيتُ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خَمَصاً، فَانكَفَأْتُ إلىٰ امْرَأَتي، فقلتُ: هل عِنْدَكِ شَيْءٌ؟ فإنِّي رأَيْتُ بِرسولِ الله صلى الله عليه وسلم خَمَصاً شَدِيداً، فَأَخْرَجَتْ إليَّ جِراباً فِيهِ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ، وَلَنَا بُهَيْمَةٌ داجِنٌ فَذَبَحْتُهَا، وَطَحنَت الشَّعِير، فَفَرَغَتْ إلىٰ فَرَاغِي، وَقَطَّعْتُهَا في بُرْمَتِهَا، ثُمَّ وَلَّيْتُ إلىٰ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: لا تَفْضَحْني بِرسولِ الله صلى الله عليه وسلم وَمَنْ مَعَهُ، فَجِئْتُهُ، فَسَارَرْتُهُ، فَقُلْتُ: يا رسول الله، ذَبَحْنا بُهَيْمَةً لَنَا، وَطَحَنَتْ صَاعاً مِنْ شَعِيرٍ، فَتَعالَ أَنْتَ وَنَفَرٌ مَعَكَ، فَصَاحَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يَا أَهْلَ الخَنْدَق: إنَّ جابراً قَدْ صَنَعَ سُؤْراً، فَحَيَّهَلاً بِكُم»، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «لا تُنْزِلُنَّ بُرْمَتكُمْ، وَلا تَخبِزُنَّ عَجِينكُمْ حَتَّىٰ أَجِيءَ» فَجئْتُ، وَجَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْدُمُ النَّاسَ، حَتَّىٰ جِئْتُ امْرَأَتِي، فقالَتْ: بِكَ وَبِكَ! فقلتُ: قَد فَعَلْتُ الَّذي قُلْت. فَأَخْرَجَتْ عَجِيناً، فَبَصقَ فِيه وَبَارَكَ، ثُمَّ عَمَدَ إلىٰ بُرْمَتِنا فَبَسَقَ فِيها وَبَارَكَ، ثُمَّ قال: «ادْعِي خَابِزَةً فَلْتَخْبِزْ مَعَكِ، وَاقْدَحِي مِنْ بُرْمَتِكُم وَلا تُنْزِلُوها» وَهُمْ أَلْفٌ، فَأُقْسِمُ بِالله لأَكَلُوا حَتَّىٰ تَرَكُوهُ وَانْحَرَفُوا، وإنَّ بُرْمَتَنَا لَتَغِطُّ كَمَا هِيَ، وَإنَّ عَجِينَنَا لَيُخْبَز كَمَا هُوَ.
قَوْلُهُ: «عَرَضت كُدْيَةٌ»: بضم الكاف وإسكان الدال وبالياءِ المثناة تحت؛ وَهِيَ قِطْعَةٌ غَلِيظَةٌ صُلبَةٌ مِنَ الأَرْضِ لا يَعْمَلُ فيهَا الْفَأْسُ. وَ«الكثِيبُ»: أَصْلُهُ تَلُّ الرَّمْلِ، وَالمُرَادُ هُنَا: صَارَتْ تُرَاباً نَاعِماً، وَهُوَ مَعْنَىٰ «أَهْيَلَ». و«الأثَافي»: الأحْجَارُ الَّتِي يَكُونُ عَلَيْهَا القِدْرُ. و«تَضَاغَطُوا»: تَزَاحمُوا. و«المَجَاعَةُ»: الجُوعُ، وهو بفتحِ الميم. و«الخَمَصُ» بفتحِ الخاءِ المعجمة والميم: الجُوعُ. و«انْكَفَأْتُ»: انْقَلَبْتُ وَرَجَعْتُ. و«الْبُهَيْمَة» بضم الباء: تَصغير بَهْمَة، وَهِيَ الْعَنَاقُ ، بفتحِ العين. و«الدَّاجِنُ»:هيَ التي أَلِفَتِ الْبَيْتَ. وَ«السُّؤْرُ»:الطَّعَام الَّذي يُدْعَىٰ النَّاسُ إلَيْه، وَهُوَ بالْفَارِسِيَّة، و«حَيَّهَلا» أَي: تَعَالَوا. وَقَوْلها: «بِكَ وبِكَ» أَي: خَاصَمَتْهُ وَسَبَّتْهُ، لأنَّهَا اعْتَقَدَتْ أنَّ الَّذي عندَهَا لا يَكْفيهم، فَاسْتَحْيَتْ، وَخَفِي عَلَيْهَا مَا أَكْرَمَ الله سُبْحَانَهُ وتعالىٰ بِهِ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ هذِهِ المُعْجِزَةِ الظَّاهِرَةِ والآيَةِ الْبَاهِرَةِ. «بَسَقَ» أي: بَصَقَ، وَيُقَالُ أَيضاً: بَزَقَ ثَلاَثُ لُغَاتٍ. و«عَمَد» بفتحِ الميم: أي: قَصَدَ. و«اقْدَحي» أي: اغرِفي، و«المِقْدَحَةُ»: المِغْرَفَةُ. و«تَغِطُّ» أَي: لِغَلَيَانِهَا صَوْتٌ، والله أعلم.
معصوب: مربوط بعصابة، وهي الرباط.
لا تذوق ذواقاً: طعاماً.
العناق: الأنثىٰ من المعز.
العجين قد انكسر: لَاْنَ ورطب وتمكن منه الخمير.
ويحك: كلمة ترحم وإشفاق.
يخمر البرمة والتنور: يغطي القِدر الكبير ومكان إعداد الخبز.
1) حبّ الصحابة رضي الله عنهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وإيثارهم إياه ولو بالقليل.
2) المعجزة العظيمة بتكثير الطعام لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي كرامةٌ من الله، لنبيه صلى الله عليه وسلم، وللمؤمنين، لما علم صبرَهم، وصدق إيمانهم.
8) أهل الإيمان يكمل بعضهم بعضاً، وهم يد علىٰ من سواهم، فانظر إلىٰ دعوتهم واجتماعهم جميعاً علىٰ طعام واحد كيف تشدُّ صفوفهم؟!
31/521 ــ وعن أنس رضي الله عنه قال: قال أبو طَلحَةَ لأُمِّ سُلَيْمٍ: قَد سَمعت صَوتَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ضَعِيفاً أَعرِفُ فِيه الجُوعَ، فهل عِندَكِ مِن شَيْءِ؟ فقالت: نَعَمْ، فَأَخْرَجَتْ أَقْرَاصاً مِن شَعِيرٍ، ثُمَّ أَخَذَتْ خِمَاراً لَها، فَلَفَّتِ الخُبزَ بِبَعضِه، ثُمَّ دَسَّتْهُ تَحْتَ ثَوبي وَرَدَّتْني بِبَعضِهِ، ثُمَّ أَرْسَلَتني إلىٰ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَذَهَبْتُ بِهِ، فَوَجَدْتُ رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم جَالِساً في المَسْجِد، وَمَعَهُ النَّاسُ، فَقُمْتُ عَلَيْهِمْ، فقال لي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «أَرْسَلَكَ أَبُو طَلْحَةَ؟» فقلت: نَعَمْ، فقال: «ألِطَعَام؟» فقلت: نَعَم، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «قُومُوا»، فَانْطَلَقُوا وَانْطَلَقْتُ بَيْنَ أَيدِيهِم، حَتَّىٰ جِئتُ أَبَا طَلْحَةَ فَأَخبَرْتهُ، فقال أبُو طَلْحَةَ: يَا أُمَّ سُلَيمٍ، قَد جَاءَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالنَّاسِ وَلَيْسَ عِنْدَنا ما نُطْعِمُهُم؟ فقالتْ: الله وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. فَانطَلَقَ أبُو طَلْحَةَ حَتَىٰ لَقِيَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فَأَقْبَلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مَعَه حَتَّىٰ دَخَلا، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «هَلُمِّي مَا عِنْدَكِ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ؟» فَأَتَتْ بِذلِكَ الخُبْزِ، فَأَمَرَ بِهِ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فَفُتَّ، وَعَصَرَتْ عَلَيْهِ أُمُّ سُلَيْمٍ عُكَّةً فأدَمَتْهُ، ثُم قَال فِيهِ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ما شَاءَ الله أَنْ يَقُولَ، ثمَّ قال: «ائذَنْ لِعَشَرَةٍ» فَأَذِنَ لَهُمْ، فَأَكَلُوا حَتَّىٰ شَبِعُوا، ثُمَّ خَرَجُوا، ثم قالَ: «ائذَنِ لِعَشَرَة» فَأَذِنَ لَهم، فَأَكَلُوا حَتَّىٰ شَبِعُوا، ثم خَرَجوا، ثمَّ قال: «ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ» فَأَذِنَ لهُم، حتَّىٰ أَكَلَ القَوْمُ كُلُّهُم وَشَبِعُوا، وَالْقَوْمُ سَبْعُونَ رَجُلاً أَوْ ثَمَانُونَ. متفقٌ عليه.
وفي رواية: فما زال يَدخُلُ عَشَرَةٌ وَيَخْرُجُ عَشَرَةٌ، حتَّىٰ لم يَبْقَ مِنهم أَحَدٌ إلا دَخَلَ، فَأَكَلَ حتىٰ شَبعَ، ثمَّ هَيأَهَا فإذَا هِي مِثلُها حِين أَكَلُوا مِنها.
وفي رواية: فَأَكَلُوا عَشَرَةً عَشَرَةً، حتَّىٰ فَعَلَ ذلِكَ بِثَمانِينَ رَجُلاً، ثم أكَلَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بعدَ ذلِكَ وَأَهْلُ البَيت، وتَرَكُوا سُؤراً.
في روايةٍ: ثم أَفضَلُوا مَا بَلَغُوا جيرَانهُم.
وفي روايةٍ عن أنسٍ قال: جِئْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يَوْماً، فَوَجَدْتُهُ جَالِساً معَ أَصحابِهِ، وقَد عَصبَ بَطْنَهُ بِعِصَابَةٍ، فقلتُ لِبَعْضِ أَصحَابِهِ: لِمَ عَصبَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بَطْنَهُ؟ فقالوا: مِنَ الجُوعِ، فَذَهَبْت إلىٰ أبي طَلْحَةَ، وَهُوَ زَوْجِ أُمِّ سُلَيمٍ بنت مِلحَانَ، فقلت،: يَا أَبَتَاه، قد رَأَيْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عَصَبَ بَطْنَهُ بِعِصَابَةٍ، فَسَأَلْتُ بعضَ أَصحَابِهِ، فَقالوا: مِنَ الجُوعِ. فَدَخَلَ أَبُو طَلْحَةَ علىٰ أُمِّي، فقال: هَلْ مِن شَيْءٍ؟ قالت: نعم، عِنْدِي كِسَرٌ مِن خُبزٍ وَتَمَراتٌ، فإنْ جَاءنَا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وَحدَهُ أَشبَعنَاه، وَإن جَاءَ آخَرُ معه قَلَّ عَنهمْ، وَذَكَرَ تَمَامَ الحديث.
خمار: غطاء الوجه للمرأة.
عُكَّة: وعاء من جلد مختص بالسمن والعسل.
فآدمته: جعلته إداماً.
سؤراً: بقية الطعام.
1) فضيلة أم سليم ورجحان عقلها، رضي الله عنها؛ فقد عرفت أن رسول الله دعا الجمع الكثير عمداً، ليظهر الكرامة في تكثير الطعام، فقالت: الله ورسوله أعلم. فيظهر فضلها من التسليم لأمر الله تعالىٰ وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم.
2) اعتناء الصحابة رضي الله عنهم بأحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
8) بيان حال الزهد والفقر الذي عاشه مجتمع الصحابة رضي الله عنهم جميعاً.
قولنا: «الله ورسوله أعلم» جائز في الأمور الدينية الشرعية، أما الأمور الدنيوية، فيقال فيها: «الله أعلم»؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ مع أنه أفضل الخلق وأكرمهم عند الله تعالىٰ ـ لا يعلم الغيب. {وَلَو كُنتُ أَعلَمُ ٱلغَيبَ لَٱستَكثَرتُ مِنَ ٱلخَيرِ وَمَا مَسَّنِيَ ٱلسُّوٓءُ} فالشريعةالكاملة جاءت هاديةً لأقوال العباد وأفعالهم وأحوالهم. فعلىٰ كل مؤمن ــ محب لله تعالى ولرسوله ــ أن يعتني بضبط أقواله على منهج الشرع المنزل. ولا يغتر بما تساهل به كثير من الخلق واعتادوا عليه من الشرع المبدل.