قال الله تعالىٰ: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱصۡبِرُواْ وَصَابِرُواْ} [آل عمران: 200]، وقال تعالىٰ: {وَلَنَبۡلُوَنَّكُم بِشَيۡءٖ مِّنَ ٱلۡخَوۡفِ وَٱلۡجُوعِ وَنَقۡصٖ مِّنَ ٱلۡأَمۡوَٰلِ وَٱلۡأَنفُسِ وَٱلثَّمَرَٰتِۗ وَبَشِّرِ ٱلصَّٰبِرِينَ} [البقرة: 155]، وقال تعالىٰ: {إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّٰبِرُونَ أَجۡرَهُم بِغَيۡرِ حِسَابٖ} [الزمر: 10]، وقال تعالىٰ: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنۡ عَزۡمِ ٱلۡأُمُورِ} [الشورى: 43]، وقال تعالىٰ: {ٱسۡتَعِينُواْ بِٱلصَّبۡرِ وَٱلصَّلَوٰةِۚ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّٰبِرِينَ} [البقرة: 153]، وقال تعالىٰ: {وَلَنَبۡلُوَنَّكُمۡ حَتَّىٰ نَعۡلَمَ ٱلۡمُجَٰهِدِينَ مِنكُمۡ وَٱلصَّٰبِرِينَ وَنَبۡلُوَاْ أَخۡبَارَكُمۡ} [محمد: 31]. والآيات في الأمر بالصبر وبيان فضله كثيرة معروفة.
الصبر لغةً: الحبس، وشرعاً: حبس النفس علىٰ ثلاثة أمور، الأول: علىٰ طاعة الله، الثاني: عن محارم الله، الثالث: علىٰ أقدار الله المؤلمة.
1) أمر الله سبحانه المؤمنين بالثبات علىٰ طاعته، وترك المعاصي، والرضىٰ بقضائه وقدره.
2) لا يزال البلاء بالمؤمنين اختباراً لهم، ولمجازاتهم علىٰ صبرهم، كلٌّ بحسب ما عنده من الإيمان والصبر.
3) الصبر من مكارم الأخلاق والأفعال الحميدة والأمور المشكورة، التي لا يقدر عليها إلا فحول الرجال.
1/25 ــ وَعَن أبي مَالكٍ الْحَارِثِ بْنِ عَاصِمٍ الأشْعَرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : «الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَان، وَالْحَمْدُ لله تَمْلأُ الْمِيزَانَ، وَسُبْحَانَ الله وَالْحَمْدُ لله تَمْلآنِ ــ أوْ تَمْلأُ ــ مَا بَيْنَ السَّمَاواتِ وَالأرْضِ، وَالصَّلاةُ نُورٌ، وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ، وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ، وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أوْ عَلَيْكَ. كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو، فَبَائعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا، أوْ مُوبِقُهَا». رواه مسلم.
يغدو: يروح ويسعى.
معتقها: يخلّص نفسه من العذاب.
موبقها: يوقع نفسه في الهلاك.
1) فضل الطهارة في الإسلام، حتىٰ كانت نصف الإيمان.
2) بيان فضل ذكر الله _عز وجل_ وعظمة أجره.
3) الصلاة تضيء لصاحبها طريقَ الحق في الدنيا، والصِّراطَ في الآخرة.
4) بيان فضل الصبر؛ فهو أمر محمود يضيء للعبد عندما تشتد به الكربات. وقد وُصف بالضياء، لأن فيه إحراقاً وإشراقاً، لمشقته وصعوبته.
5) الاهتمام والعناية بكتاب الله _عز وجل_ ؛ تلاوةً، وفهماً، وعملاً، ودعوةً، واستغناءً بالوحي عما سواه، فهذا حظ المؤمن الذي يحرص علىٰ كتاب الله تعالىٰ.
2/26ــ وَعَنْ أبي سَعيد سَعْد بْنِ مَالكِ بْنِ سِنَانٍ الْخُدْريِّ رضي الله عنهما أنَّ نَاساً منَ الأنْصَارِ سَألُوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فَأعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَألُوهُ فَأعْطَاهُمْ، حَتَّىٰ نَفِدَ مَا عِنْدَه، فَقَالَ لَهُمْ حِينَ أنْفَقَ كُلَّ شَيْءٍ بِيَدِهِ: «مَا يَكُنْ عِنْدِي مِن خَيْرٍ فَلَن أدَّخِرَهُ عَنكُمْ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللهُ ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ، وَمَا أُعْطِيَ أحَدٌ عَطَاءً خَيْراً وَأوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ». متفقٌ عليه.
1) إذا استعف العبد عن الحرام أعفّه الله _عز وجل_، وحماه وحمىٰ أهله من هذه المحرمات وفتنتها.
2) إذا استغنىٰ العبد بما عند الله عما في أيدي الناس أغناه الله عن الناس، وجعله عزيز النفس بعيداً عن السؤال.
3) من أفضل النعم علىٰ العبد أن يكون صابراً في كل أموره.
3/27 ــ وَعَنْ أبِي يَحْيَىٰ صُهَيْبِ بْنِ سِنَانٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم : «عَجَباً لأمْرِ المُؤْمِنِ إِنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذلِكَ لأحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِن: إِنْ أصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَـكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أصَابَتْهُ ضَرّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ». رواه مُسْلِم.
1) الحث علىٰ الشكر عند السراء، فهو من أسباب زيادة النعم.
2) المؤمن الذي كَمُل إيمانه، وخلص يقينه، يشكر الله في السراء، ويصبر علىٰ الضراء.
3) فضيلة الصبر؛ فهو من أخص صفات المؤمنين.
4/28 ــ وَعَنْ أنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا ثَقُلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ يَتَغَشَّاه الْكَرْبُ، فَقَالَتْ فَاطِمَةُ رضي الله عنها: وَاكَرْبَ أبَتاه، فَقَالَ: «لَيْسَ عَلَىٰ أبِيكِ كَرْبٌ بَعْدَ الْيَوْمِ» فَلَمَّا مَاتَ قَالَتْ: يَا أبَتَاه أجَابَ رَبّاً دَعَاه، يَا أبَتاه جَنَّةُ الْفِرْدَوْسِ مَأْوَاهُ، يَا أبَتَاه إِلىٰ جِبْريلَ نَنْعَاه، فَلَمَّا دُفِنَ قَالَتْ فَاطِمَةُ رضي الله عنها: أطَابَتْ أنْفُسُكُمْ أنْ تَحْثُوا عَلَىٰ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم التُّرَابَ؟ رَوَاهُ البُخَارِيّ.
يتغشاه الكرب: تنزل به الشدة من سكرات الموت.
ننعاه: من النعي، وهو الإخبار بالوفاة.
1) إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كغيره من البشر؛ يُمرض ويجوع ويعطش، فلا يجوز الاستغاثة أو الاستنجاد به، كما يفعل ذلك بعض الجاهلين هداهم الله إلىٰ تحقيق التوحيد والإخلاص لرب العالمين.
2) لا بأس بالندب اليسير، إذا لم يكن سببه التسخط علىٰ الله _عز وجل_، وإنما سببه الحزن الشديد.
3) الحث علىٰ لزوم الصبر عند المصائب وعدم التسخط.
5/29 ــ وَعَنْ أبي زَيْدٍ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ مَوْلَىٰ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَحِبِّهِ وَابْنِ حِبِّهِ رضي الله عنهما قَالَ: أرْسَلَتْ بِنْتُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : إِنَّ ابْني قَد احْتُضِرَ فَاشْهَدْنَا، فَأرْسَلَ يُقْرِئ السَّلامَ وَيَقُول: «إِنَّ لله مَا أخَذَ، وَلَهُ مَا أعْطَى، وَكُلُّ شَيْء عِنْدَهُ بِأجَلٍ مُسَمَّىً، فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ» فَأرْسَلَتْ إِلَيْهِ تُقْسِمُ عَلَيْهِ لَيَأْتِيَنَّهَا. فَقَامَ وَمَعَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَأُبـَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَرِجَالٌ رضي الله عنهم، فَرُفِعَ إِلَىٰ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم الصَّبيُّ، فَأقْعَدَهُ في حِجْرِهِ، وَنَفْسُهُ تَقَعْقَعُ، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رسولَ الله مَا هذا؟ فَقَالَ: «هذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللهُ تَعَالَىٰ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ» وفي رِواية: «في قُلُوبِ مَن شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَمَعْنَىٰ (تَقَعْقَعُ): تَتَحَرَّكُ وَتَضْطَرِبُ.
1) وجوب الصبر عند المصائب وعدم الجزع.
2) تواضع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، واهتمامه بأمور الصحابة رضي الله عنهم، فكان يفرح لفرحهم، ويحزن لحزنهم.
3) جواز البكاء رحمةً بالمصاب، لكن من غير نياحة؛ وذلك بأن تجتمع النساء، ثم يبالغن في البكاء، ورفع الصوت علىٰ الميت، فإن هذا محرم.
4) الراحمون الذين يتراحمون فيما بينهم في الدنيا يرحمهم الله تعالىٰ في الدنيا والآخرة، لأن من أسباب رحمةِ الله _عز وجل_ رحمةَ الخلقِ بعضِهم بعضاً.
6/30 ــ وَعَنْ صُهَيْبٍ رضي الله عنه أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «كَانَ مَلِكٌ فيمَنْ قَبْلَكُمْ، وَكَانَ لَهُ سَاحِرٌ، فَلَمَّا كَبرَ قَالَ للْمَلِكِ: إِنّي قَدْ كَبِرْتُ فَابْعَثْ إِلَيَّ غُلاماً أُعَلِّمْهُ السِّحْرَ؟ فَبَعَثَ إِلَيْهِ غُلاماً يُعَلِّمُهُ، وَكَانَ فِي طَرِيقِهِ إِذَا سَلَكَ رَاهِبٌ، فَقَعَدَ إِلَيْهِ وَسَمِعَ كَلاَمَهُ فَأعْجَبَهُ، وَكَانَ إِذَا أتَىٰ السَّاحِرَ مَرَّ بِالرَاهِبِ وَقَعَدَ إِلَيْهِ، فَإِذَا أتَىٰ السَّاحِرَ ضَرَبَهُ، فَشَكَا ذلِكَ إِلَىٰ الرَّاهِبِ فَقَالَ: إِذَا خَشِيتَ السَّاحِرَ فَقُلْ: حَبَسَنِي أهْلي، وَإِذَا خَشِيتَ أهْلَكَ فَقُلْ: حَبَسَنِي السَّاحِرُ. فَبَيْنَمَا هُوَ عَلَىٰ ذلِكَ إِذْ أتَىٰ عَلَىٰ دَابَّةِ عَظِيمَةٍ قَدْ حَبَسَتِ النَّاسَ، فَقَالَ: الْيَوْمَ أعْلَمُ السَّاحِرُ أفْضَلُ أمِ الرَّاهِبُ أفْضَلُ ؟ فَأخَذَ حَجَراً، فَقَالَ: اللهم إِنْ كَانَ أمْرُ الرَّاهِبِ أحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ أمْرِ السَّاحِرِ فَاقْتُلْ هَذِهِ الدَابَّةَ حَتَّىٰ يَمْضِيَ النَّاسُ، فَرَمَاهَا فَقَتَلَها وَمَضَىٰ النَّاسُ، فَأتَىٰ الرَّاهِبَ فَأخْبَرَهُ. فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ: أيْ بُنَيً أنْتَ الْيَوْمَ أفْضلُ مِنِّي، قَدْ بَلَغَ مِنْ أمْرِكَ مَا أرَى، وَإنَّكَ سَتُبْتَلَى، فَإِنِ ابْتُلِيتَ فَلاَ تَدُلَّ عَلَيَّ . وَكَانَ الْغُلاَمُ يُبْرىءُ الأكْمَهَ وَالأبْرَصَ، وَيُدَاوِي النَّاسَ مِنْ سَائِرِ الأدْوَاءِ. فَسَمِعَ جَلِيسٌ لِلْمَلِكِ كَانَ قَدْ عَمِيَ، فَأتَاه بِهَدَايَا كثِيرةٍ، فَقَالَ: مَا هَاهُنَا لَكَ أجْمَعُ إِنْ أنْتَ شَفَيْتنِي، فَقَالَ: إنِّي لا أشْفِي أحَداً، إنَّمَا يَشْفِي اللهُ تَعَالَى، فَإِنْ آمَنْتَ بِالله تَعَالَىٰ دَعَوْتُ اللهَ فَشَفَاكَ، فآمَنَ بِالله تَعَالَىٰ فَشَفَاهُ الله تَعَالَى، فَأتَىٰ الْمَلِكَ فَجَلَسَ إلَيْهِ كَمَا كَانَ يَجْلِسُ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَنْ رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ؟ قَالَ: رَبِّي، قَالَ: وَلَكَ رَبٌّ غَيْرِي؟! قَالَ: رَبِّي وَرَبُّكَ اللهُ ، فَأخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذّبُهُ حَتَّىٰ دَلَّ عَلَىٰ الْغُلامِ، فَجِيءَ بِالْغُلامِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: أيْ بُنَيَّ! قَدْ بَلَغَ مِنْ سِحْرِكَ مَا تُبْرِىءُ الأكْمَهَ وَالأبْرَصَ، وَتَفْعَلُ وَتَفْعَلُ، فَقَالَ: إِنِّي لا أشْفِي أحَداً، إنَّمَا يَشْفِي اللهُ تَعَالَى، فَأخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَىٰ دَلَّ عَلَىٰ الرَّاهِبِ، فَجِيءَ بِالرَّاهِبِ فَقِيلَ لَهُ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأبَى، فَدَعَا بالمِنْشَارِ، فَوُضِعَ الْمِنْشَارُ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ، فَشَقَّهُ حَتَّىٰ وَقَعَ شِقَّاهُ، ثُمَّ جِيءَ بِجَلِيسِ الْمَلكِ، فقيلَ لَهُ: ارْجعْ عَنْ دِينِكَ فَأبَى، فَوُضِعَ المِنْشَارُ في مَفْرِقِ رَأْسِهِ، فَشَقّهُ بِهِ حَتَّىٰ وَقَعَ شِقَّاهُ، ثُمَّ جِيءَ بالْغُلاَمِ، فَقِيلَ لَهُ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأبَى، فَدَفَعَهُ إِلَىٰ نَفَرٍ مِنْ أصْحَابِهِ، فَقَالَ: اذْهَبُوا بِهِ إِلَىٰ جَبَلِ كَذَا وَكَذَا فاصعَدُوا بِهِ الْجَبَلَ، فَإِذَا بَلَغْتُمْ ذِرْوَتَهُ فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإلَّا فاطْرَحُوهُ، فَذَهَبُوا بِهِ فَصعَدُوا بِهِ الْجَبَلَ، فَقَالَ: اللهم اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ، فَرَجَفَ بِهِمُ الْجَبَلُ فَسَقَطُوا، وَجَاءَ يَمْشِي إِلَىٰ الْمَلِكِ. فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَا فُعِلَ بأصْحَابِكَ ؟ فَقَالَ: كَفَانِيهِمُ اللهُ تعالىٰ، فَدَفَعَهُ إلىٰ نَفَرٍ مِنْ أصْحَابه، فقالَ: اذْهَبُوا به فاحْمِلُوهُ في قُرْقُورٍ وَتَوَسَّطُوا به الْبَحْرَ، فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإلَّا فاقْذِفُوهُ، فَذَهَبُوا به، فقالَ: اللهم اكْفِنِيهِمْ بمَا شِئْتَ، فانْكَفَأتْ بهِمُ السَّفِينَةُ فَغَرِقُوا، وَجَاءَ يَمْشِي إلَىٰ الْمَلِكِ. فقالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَا فُعِلَ بأصْحَابِكَ ؟ فَقَالَ: كَفَانِيهِمُ اللهُ تعالىٰ، فَقَالَ لِلْمَلِكِ: إنَّكَ لَسْتَ بِقَاتِلِي حَتَىٰ تَفْعَلَ مَا آمُرُكَ بِهِ، قَالَ: مَا هُوَ؟ قَالَ: تَجْمَعُ النَّاسَ في صَعِيد وَاحِدٍ، وَتَصْلِبُني عَلَىٰ جَذْعٍ، ثُمَّ خُذْ سَهْماً مِنْ كِنَانَتي، ثُمَّ ضعِ السَّهْمَ في كَبِدِ الْقَوْسِ، ثُمَّ قُلْ: بِسْمِ الله رَبِّ الْغُلامِ، ثُمَّ ارْمِني، فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذلِكَ قَتَلْتَنِي. فَجَمَعَ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، وَصَلَبَهُ عَلَىٰ جِذْعٍ، ثُمَّ أخَذَ سَهْماً مِنْ كِنَانَتِهِ، ثُمَّ وَضَعَ السَّهْمَ في كَبِدِ الْقَوْسِ، ثُمَّ قَالَ : بِسْـمِ الله رَبِّ الْغُلامِ، ثُمَّ رَمَاهُ فَوَقَعَ السَّهْمُ في صُدْغِهِ، فَوَضَعَ يَدَهُ فِي صُدْغِهِ فَمَاتَ. فَقَالَ النَّاسُ: آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلاَمِ. فَأُتِيَ الْمَلِكُ، فَقِيلَ لَهُ: أرَأيْتَ مَا كُنْتَ تَحْذَرُ قَدْ وَالله نَزَلَ بِكَ حَذَرُكَ، قَدْ آمَنَ النَّاسُ. فَأمَرَ بالأُخْدُودِ بِأفْوَاهِ السِّكَكِ فَخُدَّتْ، وَأُضْرِمَ فِيهَا النِّيرَانُ، وَقَالَ: مَنْ لَمْ يَرْجعْ عَنْ دِينِهِ فَأقْحِمُوهُ فِيها ـ أوْ قِيلَ لَهُ: اقْتَحِمْ ـ، فَفَعَلُوا. حَتَّىٰ جَاءَت امْرَأةٌ وَمَعَهَا صَبيٌّ لَهَا، فَتَقَاعَسَتْ أنْ تَقَعَ فِيهَا، فَقَالَ لَهَا الْغُلامُ: يَا أُمَّاهُ اصْبِرِي فَإِنَّكِ عَلَىٰ الْحَقِّ». رَوَاهُ مُسْلِم.
(ذِرْوَةُ الْجَبَلِ): أعْلاَهُ، وَهِيَ بِكَسْرِ الذَّالِ الـمُعْجَمَةِ وَضَمِّهَا. وَ(الْقُرْقُورُ) بِضَمِّ الْقَافَيْن: نَوْعٌ مِنَ السُفُنِ. وَ(الصَّعِيدُ) هُـنَا: الأَرْضُ الْبَارِزَةُ. و(الأُخْدُودُ): الشُّقُوقُ في الأَرْضِ، كَالنَّهْرِ الصَغِيرِ. (وَأُضْرِمَ): أُوِقِدَ. (وَانْكَفَأَتْ) أي: انْقَلَبَتْ. (وَتَقَاعَسَتْ): تَوَقَّفَتْ وَجَبُـنَتْ.
الأكمه: الذي وُلِد أعمى. الأبرص: من في جلده بياض يظهر في ظاهر البدن.
الأدواء: الأمراض والأسقام.
في كبد القوس: في وسطه، وهو مقبضها عند الرمي.
صُدْغه: بضم الصاد وسكون الدال، وهو ما بين العين إلىٰ شحمة الأذن.
بأفواه السكك: بأبواب الطرق.
خدت: شُقَّت. فأقحموه: ألقوه.
1) استحباب التعلُّم في الصغر، فإنه كالنقش في الحجر.
2) {ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} هم أولياء الله تعالىٰ، ولهم كرامات من الله تعالىٰ لفضلهم عنده.
3) من رحمة الله _عز وجل_؛ أنه يجيب دعوة المضطر إذا دعاه.
4) الحث علىٰ التضحية في سبيل الدعوة إلىٰ الله _عز وجل_ وإظهار الحق.
5) إن الصبر علىٰ أذىٰ أهل الكفر والبدع والمعاصي باب من أبواب الجهاد في سبيل الله _عز وجل_، وهو من أعظم الأعمال الصالحة وقت الفتن.
6) توحيد الله _عز وجل_ وإخلاص العمل له من أعظم حقوق الله تعالىٰ علىٰ العباد جميعاً، وهو ميزان القرب والبعد من الله _عز وجل_؛ فالعبد كلما قوي إيمانه، وعظم شأن التوحيد في قلبه فإنه يزداد قرباً وكرامة عند الله _عز وجل_، وكلما ضعف ذلك الإيمان والتوحيد فإنه يزداد بعداً وذلةً.
7) أعظم ما يدعو العالمُ الناسَ إليه هو توحيد الله _عز وجل_، والنهي عن الشرك بجميع أشكاله وأنواعه. فهل عرفنا أول ما ندعو الناس إليه؟!
7/31 ــ وَعَنْ أنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بامْرأةٍ تَبْكِي عِنْدَ قَبْرٍ، فَقَالَ: «اتَّقِي اللهَ وَاصْبِري» فَقَالَتْ: إِلَيْكَ عَنِّي ؟ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَبْ بِمُصيبَتي! وَلَمْ تَعْرِفْهُ، فَقِيلَ لَهَا: إنَّهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ، فَأتَتْ بَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، فَلَمْ تَجِدْ عِنْدَهُ بَوَّابِينَ، فَقَالَتْ: لَمْ أعْرِفْكَ، فَقَالَ: «إنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي رِوَايةٍ لِمُسْلِمٍ: «تَبْكِي عَلَىٰ صَبِيٍّ لَهَا».
1) حسن خلق النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في دعوته إلىٰ الحق، ورحمته بالخلق.
2) الصبر الذي يُحمد فاعله؛ هو الصبر عند الصدمة الأولى.
8/32 ــ وَعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ «يَقُولُ اللهُ تَعَالى: مَا لِعَبْدِي الـمُؤْمِنِ عِنْدِي جَزَاءٌ إِذَا قَبَضْتُ صَفِيَّهُ مِنْ أهْلِ الدُّنْيَا ثُمَّ احْتَسَبَهُ إلَّا الجنَّةُ». رَوَاهُ البُخَارِي.
الصَّفي: الحبيب، وما يختاره من ولد أو أم أو أب أو أخ أو عم أو صديق.
1) فضيلة الصبر علىٰ قبض الصَّفي من الدنيا؛ فالعبد إذا احتسب أجره علىٰ الله فله الجنة.
2) إظهار فضل الله _عز وجل_ وكرمه علىٰ عباده؛ فإنه يعوّضهم عظيم الأجر علىٰ الصبر ، فليهنأ الصابرون.
9/33 ــ وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أنّهَا سَألَتْ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم عَن الطَّاعُونِ، فَأخْبَرَهَا «أنَّهُ كَانَ عَذاباً يَبْعَثُهُ اللهُ تَعَالَىٰ عَلَىٰ مَنْ يَشَاءُ، فَجَعَلَهُ اللهُ تَعَالَىٰ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، فَلَيْسَ مِنْ عَبْدٍ يَقَعُ فِي الطَّاعُون، فَيَمْكُثُ فِي بَلَدِهِ صَابِراً مُحْتَسِباً يَعْلَمُ أنّهُ لا يُصِيبُهُ إلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَهُ إِلَّا كَانَ لَهُ مِثْلُ أجْرِ الشَّهِيدِ». رَوَاهُ ا لبُخَارِيّ.
10/34 ــ وَعَنْ أنسٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إنَّ اللهَ _عز وجل_ قَالَ: إِذَا ابْتَلَيْتُ عَبدِي بحَبِيبَتيهِ، فَصَبَرَ، عَوَّضْتُّهُ مِنْهُمَا الجَنَّةَ» يُريدُ عَيْنَيْه، رَوَاهُ البُخَارِيّ.
1) فضل الصبر والاحتساب، فهما متلازمان، وإذا أراد العبدُ نيل الأجر علىٰ الصبر فلابد أن يكون صبره لله _عز وجل_ لا لمصالح دنيوية.
2) ينبغي علىٰ من نزلت به مصيبة الطاعون أن يلزم بلده ويصبر ويحتسب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : «إذا سمعتم به بأرض فلا تَقْدَمُوا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه» رواه البخاري.
3) من أحبه الله تعالىٰ ابتلاه؛ ليدفع عَنْهُ مكروهاً، أو يكفّر عنه ذنباً، أو يرفع له درجةً في الدنيا والآخرة.
4) الجنة أعظم العوض؛ لأن نعيمها باقٍ ببقائها، فكلما أصاب العبدَ مكروهٌ فَلْيطلبِ الجنة عوضاً.
11/35 ــ وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ أبِي رَبَاحٍ قَالَ: قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما : ألا أُرِيكَ امْرَأةً مِن أهْلِ الجَنَّة ؟ فَقُلْتُ: بَلَى، قَالَ: هذِهِ المَرْأةُ السَّوْدَاءُ أتَتِ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: إِنِّي أُصْرَعُ، وَإِنِّي أتكَشَّفُ، فَادْعُ اللهَ تَعَالىٰ لِي. قَالَ: «إنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الْجَنَّةُ، وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللهَ تَعَالىٰ أنْ يُعَافِيَكِ» فَقَالَتْ: أصْبِرُ، فَقَالَت: إِنِّي أتكَشَّفُ، فَادعُ اللهَ أنْ لا أتكَشَّفَ، فَدَعَا لَهَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
1) فضيلة الصبر؛ فهو سبب لدخول الجنة.
2) إمكانية الشهادة بالجنة لمن شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بها.
3) شدة حياء الصحابيات رضي الله عنهن، فعلىٰ نساء المسلمين اليوم التمثل بهن، والالتزام بالحجاب الساتر لعوراتهن، فإن الله قد مَنَّ عليهن بذلك.
12/36 ــ وَعَنْ أبي عَبْدِ الرَّحْمنِ عَبْدِ الله بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: كَأنِّي أنْظُرُ إلَىٰ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم يَحْكِي نَبيّـاً مِنَ الأنْبِيَاءِ، صَلَوَاتُ الله وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِمْ، ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأدْمَوْه،ُ وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ، يَقُولُ: «اللهم اغْفِرْ لِقَوْمي فَإنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
يحكي نبياً: يماثله، ويفعل مثل فعل النَّبيِّ السابق؛ الذي جرىٰ له مثل ما جرىٰ لنبيِّنا يوم أُحدٍ صلوات الله وسلامه عليهم.
1) الاقتداء بصبر الأنبياء وتحمّلهم الأذىٰ في سبيل تبليغ الدعوة للناس.
2) عدم معاملة الجاهلين بمثل أعمالهم، بل حال المؤمن الصفح الجميل عن أذىٰ الجاهلين.
3) عدم استعجال العذاب بالمخالفين وأعداء الدين.
13/37 ــ وَعَنْ أبِي سَعِيدٍ وَأبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَب وَلاَ وَصَبٍ وَلاَ هَمٍّ وَلاَ حَزَنٍ وَلاَ أذىٰ وَلا غَمٍّ، حَتَّىٰ الشَّوْكَةُ يُشَاكُهَا إِلَّا كَفَّرَ اللهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ». مُتَّفَقٌ عَلَيْه.
(وَالْوَصَبُ): الْمَرَضُ.
14/38 ــ وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: دَخَلْتُ عَلَىٰ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، وَهُوَ يُوعَكُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله إِنَّكَ تُوعَكُ وَعْكاً شَدِيداً، قَالَ: «أجَلْ، إِنِّي أُوعَكُ كَمَا يُوعَكُ رَجُلانِ مِنكُمْ»، قُلْتُ: ذلِكَ أنَّ لَكَ أجْرَيْنِ؟ قَالَ: «أجَلْ ذَلِكَ كَذلِكَ، مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أذىً، شَوْكَةً فَمَا فَوْقَهَا إلَّا كَفَّرَ اللهُ بِهَا سَيِّئاتِهِ، وَحُطَّتْ عَنْهُ ذُنُوبُهُ كَمَا تحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
و(الوَعْكُ): مَغْثُ الْحُمَّى، وَقِيلَ: الْحُمَّى.
نصب: تعب.
1) من رحمة الله بعبده المؤمن، أنه يكفر عَنْهُ بما يصيبه من الهم والغم، والتعب والمرض، وغير ذلك.
2) كلما اشتد المرض والأذىٰ بالعبد المؤمن فصبر، ضاعف الله له الأجر وكفر عَنْهُ الخطايا.
3) علىٰ الإنسان ألاّ يجمع علىٰ نفسه بين الأذىٰ وتفويت الثواب، فالواجب عند المصيبة لزوم الصبر وعدم التسخط.
15/39 ــ وَعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْراً يُصِبْ مِنْهُ» رَوَاه البُخَارِيّ.
وَضَبَطُوا (يُصِبْ): بفَتْحِ الصَّادِ وَكَسْرِهَا.
يُصب منه: أي أن الله يُقدّر عليه المصائب.
1) إن مقابلة الابتلاء بالصبر والاحتساب، يرفع الله به الدرجات، ويكفر الخطيئات.
2) المصائب التي تنزل بالمؤمن دليل علىٰ أن الله يحبه، ويريد به الخير.
16/40 ــ وَعَنْ أنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم : «لاَ يَتَمَنَّيَنَّ أحَدكُمُ الْمَوْتَ لضُرٍّ أصَابَهُ، فَإِنْ كَانَ لابُدَّ فَاعِلاً فَلْيقُل: اللهم أحْيِني مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْراً لِي، وَتَوَفَّني إذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْراً لِي». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
1) النهي عن تمني الموت عند الفتن والمصائب؛ لأن هذا يخالف واجب الصبر، ويدل علىٰ جزع صاحبها.
2) العبد المؤمن يفوض جميع أموره إلىٰ الله، مَعَ حب لقاء الله _عز وجل_. وخيرُ الناس من طال عمره وحسن عمله.
17/41 ــ وَعَنْ أبِي عَبْدِ الله خَبَّابِ بْنِ الأرَتِّ رضي الله عنه قَالَ: شَكَوْنَا إِلَىٰ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم ، وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، فَقُلْنَا: ألاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا؟ ألاَ تَدْعُو لَنَا؟ فَقَالَ: «قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ، فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الأرْضِ فَيُجْعَلُ فِيها، ثُمَّ يُؤْتَىٰ بالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَىٰ رَأْسِهِ فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، وَيُمْشَطُ بِأمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ، مَا يَصُدُّهُ ذلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللهِ ليُتِمَّنَّ اللهُ هَذَا الأمْرَ حَتَّىٰ يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَىٰ حَضْرَمَوْتَ لاَ يَخَافُ إِلَّا اللهَ وَالذِّئْبَ عَلَىٰ غَنَمِهِ، وَلكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ»،. رَوَاهُ البُخَارِيّ.
وَفِي رِوايَة: «وَهُوَ مُتَوَسِّد بُرْدَةً وَقَدْ لَقِينَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ شِدَّةً».
متوسد بردة: جعلها تحت رأسه كالوسادة.
1) وجوب الصبر علىٰ أذية أعداء المسلمين، مَعَ الأخذ بأسباب النصر والفرج.
2) من دلائل النبوة: صدق ما أخبر به صلى الله عليه وسلم ؛ حيث كَانَ عاقبة الصبر ما بَشَّر به من إتمام أمر الدين.
18/42 ــ وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ آثَرَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم نَاساً في الْقِسْمَةِ، فَأعْطَىٰ الأقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ مائَةً مِنَ الإبِلِ، وَأعْطَىٰ عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ مِثْلَ ذلِكَ، وَأعْطَىٰ نَاساً مِن أشْرَافِ الْعَرَب، وَآثَرَهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْقِسْمَةِ. فَقَالَ رَجُلٌ: وَاللهِ إنَ هَذِهِ قِسْمَةٌ مَا عُدِلَ فِيهَا، وَمَا أُرِيدَ فِيهَا وَجْهُ الله ، فَقُلْتُ: وَاللهِ لأُخْبِرَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم ، فَأتَيْتُهُ فَأخْبَرْتُهُ بِمَا قَالَ، فَتَغيَّرَ وَجْهُهُ حَتَىٰ كَانَ كَالصِّرفِ. ثُمَّ قَالَ: «فَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ يَعْدِلِ اللهُ وَرَسُولُهُ»؟ ثُمَّ قَالَ: «يَرْحَمُ اللهُ مُوسَى، قَدْ أُوْذِي بِأكْثَرَ مِنْ هذَا فَصَبَرَ». فَقُلْتُ: لا جَرَمَ لا أرْفَعُ إِلَيْهِ بَعْدَهَا حَدِيثاً. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ: (كَالصِّرْفِ) هُوَ بِكَسْرِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ: وَهُوَ صِبْغٌ أحْمَر.
لا جرم: حقّاً، بمعنىٰ تحقق الشيء.
1) جواز أن يعطي ولي الأمر من يَرىٰ في إعطائه المصلحة، كَأنْ يكون في ذلك تأليفاً للقلوب.
2) علىٰ العبد أن يقتدي بالأنبياء في الصبر علىٰ الأذى، وأن يحتسب الأجر عند الله تعالىٰ، فإن أوذي فإنه يسلي نفسه بما أصاب الأنبياء قَبْلنا صلوات الله وسلامه عليهم.
19/43 ــ وَعَنْ أنسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم : «إِذَا أرَادَ اللهُ بِعَبْدِهِ خَيْراً عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا، وَإِذَا أرَادَ اللهُ بِعَبْدِهِ الشَرَّ أمْسَكَ عَنْهُ بِذَنْبِهِ حَتَّىٰ يُوَافِيَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلاء، وَإنَّ اللهَ تَعَالَىٰ إِذَا أحَبَّ قَوْماً ابْتَلاهُم، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضى، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ». رَوَاهُ التّرمذي وَقَالَ: حَدِيث حَسَنٌ.
1) العقوبات تكفّر السيئات.
2) علىٰ العبد أن يصبر علىٰ المصائب، حتىٰ يكتب له الرضىٰ من الله _عز وجل_.
3) إن إمهال الله _عز وجل_ للعاصين هو استدراج لهم، فالعقوبة تؤخر لحكمةٍ وموعدٍ قدّره الله تعالىٰ. {حَتَّىٰٓ إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُوٓاْ أَخَذۡنَٰهُم بَغۡتَةٗ فَإِذَا هُم مُّبۡلِسُونَ}.
في هذه الأحاديث دلالة صريحة علىٰ أن المؤمن كلما كان أقوىٰ إيماناً، ازداد ابتلاءً وامتحاناً، وكلما ضعف إيمانه، خف ابتلاؤه وامتحانه، ففي هذا ردٌّ علىٰ ضعفاء العقول والأحلام الذين يظنون أن المؤمن إذا أصيب ببلاء فإنه غير مرضي عند ربه، وهو ظن باطل ومقاييس فاسدة، لربط الرضىٰ في الآخرة، بالسعة والرخاء في الدنيا. {أَيَحۡسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِۦ مِن مَّالٖ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمۡ فِي ٱلۡخَيۡرَٰتِۚ بَل لَّا يَشۡعُرُونَ}.
20/44 ــ وَعَنْ أنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ ابْنٌ لأبي طَلْحَةَ رضي الله عنه يَشْتكِي، فَخَرَجَ أبُو طَلْحَةَ، فَقُبِضَ الصبِيُّ، فَلَمَّا رَجَعَ أبُو طَلْحَةَ قَال: مَا فَعَلَ ابْنِي؟ قَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ وَهِيَ أُمُّ الصَبيِّ: هُوَ أسْكَنُ مَا كَانَ، فَقَرَّبَتْ إِلَيْهِ الْعَشَاءَ فَتَعَشَّى، ثُمَّ أصَابَ مِنْهَا، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَتْ: وَارُوا الصَّبِيَّ، فَلَمَّا أصْبَحَ أبُو طَلْحَةَ أتىٰ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم فَأخْبَرَهُ، فَقَالَ: «أعَرَسْتُمُ اللَّيْلَةَ؟» قَالَ: نَعَم، قَالَ: «اللهم بَارِكْ لَهُمَا؟» فَوَلَدَتْ غُلاماً، فَقَالَ لِي أبُو طَلْحَةَ: احْمِلْهُ حَتَّىٰ تَأْتِي بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ، وَبَعَثَ مَعَهُ بِتَمَرَاتٍ، فَقَالَ: «أمَعَهُ شَيْءٌ؟» قَالَ: نَعَمْ، تَمَرَاتٌ، فَأخَذَها النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَمَضَغَهَا، ثُمَّ أخَذَهَا مِنْ فِيهِ فَجَعَلَهَا فِي فِي الصَّبيِّ، ثُمَّ حَنَّكَهُ، وَسَمَّاهُ عَبْدَ الله. مُتَّفَق عَليْه.
وَفِي رِوَايَةٍ للْبُخَارِيِّ: قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ: فَرَأيْتُ تِسْعَةَ أوْلادٍ كُلَّهُمْ قَدْ قَرَؤُوا الْقُرْآنَ، يَعْنِي مِنْ أوْلادِ عَبْدِ الله الْمَوْلُودِ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: مَاتَ ابْنٌ لأبي طَلْحَةَ مِنْ أُمِّ سُلَيْمٍ، فَقَالَتْ لأهْلِهَا: لا تُحَدِّثُوا أبَا طَلْحَةَ بابنِهِ حَتَّىٰ أكُونَ أنا أُحَدِّثُهُ، فَجَاءَ فَقَرَّبَتْ إِلَيْهِ عَشَاءً فَأكَلَ وَشَرِبَ، ثُمَّ تَصَنَّعَتْ لَهُ أحْسَنَ مَا كَانَتْ تَصَنَّعُ قَبْلَ ذلِكَ، فَوَقَعَ بِهَا، فَلَمَّا أنْ رَأتْ أنّهُ قَدْ شَبِعَ وَأصَابَ مِنْهَا قَالَتْ: يَا أبَا طَلْحَةَ، أرَأيْتَ لَوْ أنَّ قَوْماً أعَارُوا عَارِيَتَهُمْ أهْلَ بَيْتٍ فَطَلَبُوا عَارِيَتَهُمْ، أَلَهُم أنْ يَمْنَعُوهُمْ ؟ قَالَ: لا، فَقَالَتْ: فَاحْتَسِبِ ابْنَكَ. قَالَ: فَغَضِبَ، ثُمَّ قَالَ: تَرَكْتِني حَتَّىٰ إذَا تَلَطَّخْتُ ثُمَّ أخْبَرْتِني بابْني! فَانْطَلَقَ حَتَّىٰ أتَىٰ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم فَأخْبَرَهُ بِمَا كَانَ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم : «بَارَكَ اللهُ في لَيْلَتِكُما» قَال: فَحَمَلَتْ، قَال: وَكَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم في سَفَرٍ وَهِيَ مَعَهُ، وَكَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إذَا أتىٰ الْمَدِينَةَ مِنْ سَفَرٍ لا يَطْرُقُهَا طُرُوقاً فَدَنَوْا مِنَ الْمَدِينَةِ، فَضَرَبَهَا الْمَخَاضُ، فَاحْتَبَسَ عَلَيْهَا أبُو طَلْحَةَ، وَانْطَلَقَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم ، قَالَ: يَقُولُ أبُو طَلْحَةَ: إِنَّكَ لَتَعْلَمُ يَا رَبِّ أنّهُ يُعْجِبُنِي أنْ أخْرُجَ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم إذا خَرَجَ، وَأدْخُلَ مَعَهُ إذَا دَخَلَ، وَقَد احْتبَسْتُ بِمَا تَرَى، تَقُولُ أُمُّ سُلَيْمٍ: يَا أبَا طَلْحَةَ مَا أجِدُ الذي كُنْتُ أجِدُ، انْطَلِقْ، فانطَلَقْنَا، وَضَرَبَهَا المَخَاضُ حِينَ قَدِمَا فَوَلَدَتْ غُلاماً. فَقَالَتْ لِي أُمِّي: يَا أنَسُ لا يُرْضِعُهُ أحَدٌ حَتَّىٰ تَغْدُوَ بِهِ عَلَىٰ رَسُولِ صلى الله عليه وسلم ، فَلَمَّا أصْبَحَ احْتَمَلْتُه فَانْطَلَقْتُ بِهِ إلَىٰ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ.
أعَرّستم الليلة؟: أعرس الرجل: دخل بامرأته عند بنائه بها.
تلطخت: كناية عن التلوث بالجماع.
لا يطرقها طروقاً: لا يأتيها ليلاً.
1) علىٰ النساء اليوم اتخاذ القدوات من الصحابيات رضي الله عنهنّ في صبرهن؛ كأم سليم رضي الله عنها.
2) من فقه العبد أن يختار لأبنائه وبناته أحسن الأسماء.
3) من صبر واحتسب عند المصيبة أبدله الله _عز وجل_ خيراً مما أصابه في نفسه وأهله.
21/45 ــ وَعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَيْسَ الشدِيدُ بالصُّرَعةِ، إنَّمَا الشَّديدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عَنْدَ الْغَضَبِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْه.
«وَالصُّرَعَةُ» بِضَمِّ الصَّادِ وَفَتْحِ الرَّاءِ، وَأصْلُهُ عِنْدَ الْعَرَبِ مَنْ يَصْرَعُ النَّاسَ كَثِيراً.
22/46 ــ وَعَنْ سُلَيْمانَ بْنِ صُرَد رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ جَالِساً مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، وَرَجُلان يَسْتَبَّانِ، وَأحَدُهُمَا قَدِ احْمَرَّ وَجْهُهُ، وَانْتَفَخَتْ أوْدَاجُهُ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم : «إنِّي لأعْلَمُ كَلمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ، لَوْ قَالَ: أعُوذُ بِالله مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ذَهَبَ عنْهُ مَا يَجِدُ». فَقَالُوا لَهُ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «تَعَوَّذْ بالله مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْه.
1) الحث علىٰ أن يملك الإنسان نفسه عند الغضب.
2) الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، مما يعين العبد علىٰ الصبر ورد هوىٰ النفس؛ لأن الشيطان أصل كل شر، ولا يزال ينفخ في نفس الغضبان، حتىٰ يقول المنكر، ويفعل ما يخالف رضا الرحمن.
3) إن الغضب لغير الله تعالىٰ من نزغ الشيطان، وأما الغضب لانتهاك حرمات الله فهو علامة صحة الإيمان.
23/47 ــ وَعَنْ مُعَاذ بْنِ أنسٍ رضي الله عنه أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ كَظَمَ غَيْظاً، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَىٰ أن يُنْفِذَهُ، دَعَاهُ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَلَىٰ رُؤُوسِ الْخَلائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّىٰ يُخَيِّرَهُ مِنَ الْحُورِ العِينِ مَا شَاءَ». رَواهُ أبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذيُّ وَقَالَ: حَديثٌ حَسنٌ.
24/48 ــ وَعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أنَّ رَجُلاً قَالَ للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : أوْصِني، قَالَ: «لا تَغْضبْ» فَرَدَّدَ مِرَاراً، قَالَ: «لا تَغْضبْ». رَوَاهُ البُخُاريّ.
25/49 ــ وَعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم : «مَا يَزَالُ الْبَلاءُ بالْمُؤمِنِ وَالْمُؤْمِنَةِ فِي نَفْسِهِ وَوَلَدِه وَمَالِهِ، حَتَّىٰ يَلْقَىٰ الله تَعَالىٰ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ». رَوَاهُ التِّرْمِذيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حسنٌ صحِيحٌ.
كظم غيظاً: احتمل سببه وصبر عليه.
1) فضيلة الصبر؛ فهو من أعظم ما يُتقرب به إلىٰ الله _عز وجل_، ومن أهم ما يُوصىٰ به العبد.
2) إذا صبر العبد واحتسب الأجر عند الله تعالىٰ كفّر الله عَنْهُ سيئاته.
3) من رحمة الله _عز وجل_ بعباده المؤمنين؛ أن يكفِّر عنهم ذنوبهم بما يبتليهم من مصائب الدنيا وآفاتها.
26/50 ــ وَعَنْ ابْن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَال: قَدِمَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ فَنَزَلَ عَلَىٰ ابْنِ أخِيهِ الْحُرِّ بْنِ قَيْسٍ، وَكَانَ مِنَ النَّفَرِ الَّذِينَ يُدْنِيهمْ عُمَرُ رضي الله عنه، وَكَانَ الْقُرَّاءُ أصْحَابَ مَجْلِسِ عُمَرَ رضي الله عنه ومُشَاوَرَتِهِ كُهُولاً كَانُوا أوْ شُبَّاناً، فَقَالَ عُيَيْنَةُ لابْنِ أخِيهِ: يَا ابْنَ أخِي لَكَ وَجْهٌ عِنْدَ هَذَا الأمِيرِ فَاستَأْذِنْ لِي عَلَيْهِ، فَاسْتَأْذَنَ، فَأذِنَ لَهُ عُمَرُ. فَلَمَّا دَخَلَ قَالَ: هِي يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، فَوَالله مَا تُعْطِينَا الْجَزْل، وَلا تَحْكُمُ فِينَا بِالْعَدْلِ، فَغَضِبَ عُمَرُ رضي الله عنه حَتَّىٰ هَمَّ أنْ يُوقِعَ به، فَقَالَ لَهُ الْحُرُّ: يَا أمِيرَ الْمُؤْمِنينَ إِنَّ الله تَعَالىٰ قَالَ لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم : {خُذِ ٱلۡعَفۡوَ وَأۡمُرۡ بِٱلۡعُرۡفِ وَأَعۡرِضۡ عَنِ ٱلۡجَٰهِلِينَ} [الأعراف: 199]، وَإِنَّ هذَا مِنَ الجَاهِلِينَ، وَاللهِ مَا جَاوَزَها عُمَرُ حِينَ تَلاهَا، وَكَانَ وَقَّافاً عِنْدَ كِتَابِ الله تَعَالى. رَوَاهُ ا لبُخَارِيّ.
هِيْ: كلمة تهديد.
ما تعطينا الجزل: أي ما تعطينا العطاء الكثير.
1) علىٰ الإنسان إذا أصابه الغضب أو الغيظ أن يتذكر كلام الله _عز وجل_، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفعل الصحابة رضي الله عنهم وصبرهم، ليكون وقّافاً عند حدود الله تعالىٰ.
2) عظيم فضل الصحابي الجليل عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ فقد كَانَ وقّافاً عند حدود الله _عز وجل_. فعلىٰ المسلمين اليوم اتخاذ القدوات من أمثال الصحابة، رضي الله عنهم ويجانب أمثال أهل الكفر والفسوق والغفلة.
3) الواجب علىٰ ولي الأمر أن يختار جُلساء من أهل العلم والإيمان.
27/51 ــ وَعَن ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّهَا سَتكُونُ بَعْدِي أثَرَةٌ وَأُمُورٌ تُنكِرُونَهَا ! قَالُوا: يَا رسُولَ الله فَمَا تَأْمُرُنَا ؟ قال: تُؤَدُّونَ الْحَقَّ الَّذي عَلَيْكُمْ، وَتَسْألُونَ اللهَ الذي لَكُمْ». متفقٌ عليه.
«والأثَرَة»: الانْفرادُ بالشَّيْءِ عَمَّنْ لَهُ فيهِ حَقّ.
28/52 ــ وَعَن أبي يَحْيَىٰ أُسَيْدِ بْن حُضَيْرٍ رضي الله عنه أنَّ رَجُلاً مِنَ الأنْصَارِ قال: يا رسولَ الله، ألا تَسْتَعْمِلُني كَمَا اسْتَعْمَلْتَ فُلاناً؟ فَقَالَ: «إنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أثرَةً، فاصْبِرُوا حتَّىٰ تَلْقَوني عَلَىٰ الْحَوْضِ». متفقٌ عليه
«وَأُسَيْدٌ» بِضَمِّ الْهَمْزَةِ. «وَحُضَيْرٌ»: بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ مَضْمُومَةٍ وَضَادٍ مُعجَمَةٍ مَفْتُوحَةٍ، وَالله أعْلَم.
1) حثّ العباد علىٰ الصبر علىٰ ظلم ولاة الأمور في حقوق الرعية، وأداء ما عليهم من السمع والطاعة بالمعروف.
2) إن سؤال الله _عز وجل_ من فضله من أعظم الأسباب لحصول المطلوب ودفع المرهوب.
3) من جزاء الصابرين يوم القيامة الشرب من حوض النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم . والمؤمن إن فاته شيء من حظوظ الدنيا فَلْيتذكّرْ ما في الآخرة من الثواب العظيم.
29/53 ــ وَعَنْ أبي إبْرَهيمَ عَبْدِ الله بْن أبي أوْفَىٰ رضي الله عنهما أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في بَعْضِ أيَّامِهِ الَتِي لَقِيَ فِيهَا الْعَدُوَّ، انْتَظَرَ حَتَىٰ إذَا مَالتِ الشَّمْسُ قَامَ فِيهمْ، فَقَال: «يَا أيُّها النَّاسُ لا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ، وَاسْألُوا اللهَ العَافِيَةَ، فَإذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا، وَاعْلَمُوا أنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلالِ السُّيُوفِ» ثُمَّ قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : «اللهم مُنْزِلَ الْكِتَابِ، وَمُجْرِيَ السَّحَابِ، وَهَازِمَ الأحْزَابِ، اهْزِمْهُمْ وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ». متفقٌ عَليه. وبالله التَّوْفيقُ.
1) نهي العبد أن يتمنىٰ لقاء العدو، وإذا لقيه فالواجب أن يصبر، ويسأل الله _عز وجل_ أن يعينه علىٰ هذه الوظيفة.
2) استحباب الدعاء علىٰ الأعداء بالهزيمة، فحال المجاهد هو اللجوء إلىٰ الله تعالىٰ أن ينصره علىٰ أعدائه.
إن النهي عن تمني لقاء العدو لا يعني كراهية الجهاد، وعدم تحديث النفس بالغزو أو تمني الشهادة في سبيل الله، فإن ذلك كله مما رغّب الشرع به، وجعله من صفات المتقين ومنازل الصِّدِّيقين.