قالَ الله تعالىٰ: {وَتَحسَبُونَهُۥ هَيِّنا وَهُوَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِيمٞ} [النور: 15] ، وقالَ تعالىٰ: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِٱلمِرصَادِ} [الفجر: 14].
1/588 ــ وعن النُّعمانِ بنِ بَشيرٍ رضي الله عنهما قال: سَمِعْتُ رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يقُولُ: «إنَّ الحَلاَلَ بيِّنٌ، وإنَّ الحَرَامَ بيِّنٌ، وَبَيْنَهُما مُشْتَبِهاتٌ لاَ يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقىٰ الشُّبهاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ في الشُّبهاتِ وَقَعَ في الحَرامِ، كالرَّاعِي يَرْعىٰ حَوْلَ الحِمَىٰ يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فيهِ، أَلاَ وإنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمىٰ، أَلاَ وإنَّ حِمَىٰ الله مَحَارِمُهُ، أَلاَ وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً، إذا صَلَحَت صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإذا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلا وَهِيَ القَلْبُ». متفقٌ عليه. وروَياهُ مِنْ طُرقٍ بألْفاظٍ مُتَقارِبةٍ.
مشتبهات: مشكلات، لما فيها من شبه الحلال والحرام.
الحمىٰ: المكان الذي يحوطه أحاد من الناس، لئلا يقربه أحد.
مضغة: قطعة من اللحم صغيرة بقدر ما يمضغه الإنسان.
1) مُحرَّمات الشريعة حُفظت بسياج محكم؛ لئلا يقع الناس في انتهاكها، فلكل مُحرَّم موانع تمنع من الوصول إليه.
2) من اشتبه عليه أمر ديني فليتركه؛ لأن ذلك أحوط لدينه.
3) الحث علىٰ العلم، والوصية به؛ فإنه نور يبصر به العبد حقائق الأشياء، التي لا تظهر لكثير من الناس. «والعلم أن تأتيك الرخصة من عالم، وأما التشديد فيحسنه كل الناس».
4) صلاح العبد وفساده متوقف علىٰ القلب، فعلىٰ المسلم أن يعتني بصلاح قلبه، وذلك بتقوىٰ الله؛ في دوام طاعته، واجتنباب معصيته.
2/589 ــ وعن أنسٍ رضي الله عنه أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، وَجَدَ تَمْرةً في الطَّرِيق، فقالَ: «لَوْلا أنَّي أَخَافُ أَنْ تكُونَ مِنَ الصَّدَقَةِ لأَكَلْتُها». متفقٌ عليه.
1) من خصائص النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وأهل بيته تحريم الصدقة عليهم، لأن الصدقة أوساخ الناس.
2) تغليب الورع لمن اشتبه عليه حكم شيء، فالمستحب في حقه تركه والابتعاد عنه.
3/590 ــ وعن النَّوَّاسِ بنِ سَمعانَ رضي الله عنه قالَ: عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم «البِرُّ حُسنُ الخُلُقِ، وَالإثمُ ما حاكَ في نَفْسِكَ، وكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلعَ عَلَيْهِ النَّاسُ». رواهُ مسلم.
«حَاكَ» بالحاءِ المهملةِ والكافِ، أَيْ: تَرَدَّدَ فيهِ.
1) للإثم علامتان: أن يتردد في النفس ويتحرج منه، وأن يكره اطلاع الناس عليه.
2) ما أحدث في القلب شعوراً بالتردد، هل يُفعل أو لا؟ فالورع والتقوىٰ ترك ذلك.
4/591 ــ وعن وابصةَ بن معبدٍ رضي الله عنه قال: أتَيْتُ رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: «جِئْتَ تَسْأَلُ عَنِ البِرِّ؟» قلت: نعم، فقال: « اسْتَفْتِ قَلْبَكَ، البِرُّ مَا اطْمَأَنـَّتْ إلَيْهِ النَّفْسُ، واطْمَأَنَ إلَيْهِ القَلْبُ، والإثمُ ما حاكَ في النَّفْسِ وتَرَدَّدَ في الصَّدْرِ، وإنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوكَ». حديثٌ حسن، رواهُ أحمدُ، والدَّارمِيُّ في «مُسْنَدَيْهِمَا».
1) استفت قلبك، هو: خطاب لصاحب القلب السليم، المعافىٰ من الشهوات المحرمة، والأفكار الرديئة.
2) فهم التعريف النبوي المبارك للبِرِّ والإثم. وهذا من أحسن التعاريف وأجمعها.
5/592 ــ وعن أبي سِرْوَعَةَ ـ بكسر السين المهملة وفتحِها ـ عُقْبة بن الحارِثِ رضي الله عنه أَنَّهُ تَزَوَّجَ ابْنَةً لأبي إهاب بنِ عَزِيزٍ، فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ، فقالَتْ: إنِّي قَد أَرْضَعْتُ عُقْبَةَ وَالَّتي قَدْ تَزَوَّجَ بها، فقالَ لَها عُقْبَةُ: ما أَعْلَمُ أَنَّك أَرْضَعْتِني، ولا أخْبَرْتِني. فَرَكِبَ إلىٰ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم بِالمَدِينَةِ، فَسَأَلَهُ، فقال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «كَيْفَ، وَقَدْ قِيلَ؟!» فَفَارَقَهَا عُقْبَةُ، ونكَحَتْ زَوْجاً غَيرَهُ. رواه البخاري.
«إهَابٌ» بكسرِ الهمزة، وَ«عَزِيزٌ» بفتح العين وبزاي مكرَّرة.
1) شهادة المُرضِع علىٰ من أرضعته كافية في إثبات الرضاعة.
2) يُوصَىٰ من خفي عليه حكم أو اشتبه عليه أن يسأل أهل العلم.
3) علىٰ العبد أن يحتاط لحفظ دينه. فقد قال صلى الله عليه وسلم: «خير دينكم الورع». رواه الحاكم في المستدرك.
الرضاع المحرِّم هو ما اجتمع فيه شروط:
1) أن يكون اللَّبَن من آدمية، لقوله تعالىٰ: {وَأُمَّهَٰتُكُمُ ٱلَّٰتِيٓ أَرضَعنَكُم}.
2) أن يكون عدد الرضاع خمس رضعات مشبعات فأكثر.
3) أن يقع في زمن الرضاع المحرم، وهو ماقبل الفطام في الحولين.
وإذا ثبت التحريم فإنه ينتشر إلىٰ المرتضع وذريته فقط يعني: (فروعه)، أما (أصوله وحواشيه) كآبائه وإخوته وأخواته، فلا تأثير عليهم.
فمثلاً: أب الراضع وأخوه وأخته، لا يؤثر فيهم الرضاع.
6/593 ــ وعنِ الحَسنِ بن عليٍّ رضي الله عنهما، قَاَل: حَفظْتُ مِنُ رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم: «دَعْ مَا يرِيبُكَ إلىٰ مَا لا يرِيبُكَ». رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
معناه: اترُكْ ما تشُكُّ فيه، وخُذْ مَا لاَ تَشُكُّ فيه.
1) لاتأخذ إلا بما تيقَّنـْته أو غلب علىٰ ظنك، وأما الشك فإنه غير معمول به في الشرع.
2) يجب الوقوف عند المشتبهات واتقائها ليبني المؤمن أمر دينه علىٰ الأمر المعلوم.
7/594 ــ وعَنْ عائشةَ رضي الله عنها قالتْ: كَانَ لأبي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه غُلامٌ يُخْرِجُ لَهُ الخَرَاجَ، وكانَ أبو بَكْرٍ يَأْكُلُ مِنْ خَرَاجِهِ، فَجَاءَ يَوماً بِشَيءٍ، فَأَكَلَ معْهُ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ لَهُ الغُلامُ: تَدْرِي مَا هذا ؟ فَقَالَ أبو بكرٍ: ومَا هُوَ؟ قَالَ: كُنْتُ تَكَهَّنْتُ لإنْسانٍ في الجاهِلِيَّةِ، وَمَا أُحْسِنُ الكَهَانَةَ إلَّا أنِّي خَدَعْتُهُ، فَلَقِيَني، فَأَعْطَاني بذلِكَ هذا الَّذِي أَكَلْتَ مِنْهُ، فَأَدْخَلَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ ، فَقَاءَ كُلَّ شَيْءٍ في بَطْنِهِ. رواه البخاري.
«الخَراجُ»: شَيءٌ يَجْعَلُهُ السَّيِّدُ عَلىٰ عَبْدِهِ يُؤْدِّيهِ إلىٰ السَّيِّد كُلَّ يَوْم، وَبَاقي كَسبِهِ يَكُونُ لِلْعَبْدِ.
تكهنت: عملت له كهانة، وهي ادعاء شيء من علم الغيب.
1) أجرة الكهانة حرام، سواءٌ أكان الكاهن يحسن صنعة الكهانة أم لا؟ لأن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم «نهىٰ عن حُلْوان الكاهن» والأجرة علىٰ فعل الحرام حرام.
2) تمام ورع أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وحرصه علىٰ عدم دخول شيء مشتبه في جوفه. فكيف حال من يأكل ــ هو وأهل بيته ــ الحرام المقطوع في حرمته، كأموال الربا؟!.
8/595 ــ وعن نافعٍ أَنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ رضي الله عنه كانَ فَرَضَ للمهاجِرينَ الأوَّلينَ أربعةَ آلافٍ، وفرض لابنِهِ ثلاثة آلافٍ وخمسمائة، فقيل له: هو من المهاجرينَ، فَلِمَ نَقَصَهُ؟ فقال: إنَّمَا هَاجَرَ بِهِ أَبُوهُ. يَقُولُ: لَيْسَ هُوَ كَمَنْ هَاجَرَ بِنَفْسِهِ. رواهُ البخاري.
1) بيان ورع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلم تأخذه عاطفة الأبوة في ترك الحكم بالعدل.
2) علىٰ من تولىٰ شيئاً من أمور المسلمين أن يُنزل كلَّ أحدٍ منزلته، فهذا مقام الورع والعدل.
9/596 ــ وعن عَطيَّةَ بنِ عُرْوَةَ السَّعْدِيِّ الصَّحابيِّ رضي الله عنه قالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «لا يَبْلُغُ العَبْدُ أنْ يكُونَ مِنَ المُتَّقِينَ حَتىٰ يَدَعَ مَا لا بَأْسَ بِهِ حَذَراً لِمَا بِهِ بأسٌ». رواهُ الترمذي وقال: حديث حسن[5].
1) من تمام اليقين والتقوىٰ أن تدع الحلال المشتبه المتردد فيه، خوفاً من الوقوع في الحرام.
2) إذا اشتبه مباح بمحرم وجب اجتناب الجميع؛ لأن اجتناب المحرم واجب، ولايمكن اجتنابه في هذه الصورة إلا بترك الجميع.