اللغات المتاحة للكتاب Indonesia English

5 ــ باب الـمراقبة

قال الله تعالىٰ: {ٱلَّذِي يَرَىٰكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي ٱلسَّٰجِدِينَ} [الشعراء: 218 ـ 219]، وقال تعالىٰ: {وَهُوَ مَعَكُمۡ أَيۡنَ مَا كُنتُمۡۚ} [الحديد: 4] ، وقال تعالىٰ: {إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَخۡفَىٰ عَلَيۡهِ شَيۡءٞ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِي ٱلسَّمَآءِ} [آل عمران: 5] ، وقال تعالىٰ: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِٱلۡمِرۡصَادِ} [الفجر: 14] ، وقال تعالىٰ: {يَعۡلَمُ خَآئِنَةَ ٱلۡأَعۡيُنِ وَمَا تُخۡفِي ٱلصُّدُورُ} [غافر: 19] ، والآيات في الباب كثيرةٌ معلومة.

هداية الآيات:

1) علىٰ العبد أن يراقب ربَّه، وأن يعلم أن الله رقيب عليه.

2) المعية التي أضافها الله إلىٰ نفسه في القرآن الكريم تنقسم إلىٰ أنواع:

أولاً ــ تكون بمعنىٰ الإحاطة بالخلق علماً وقدرة وسلطاناً وتدبيراً، كقوله: {وَهُوَ مَعَكُمۡ أَيۡنَ مَا كُنتُمۡۚ}.

ثانياً ــ يكون المراد بها التهديد والإنذار، كما في قوله: {يَسۡتَخۡفُونَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَلَا يَسۡتَخۡفُونَ مِنَ ٱللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمۡ إِذۡ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرۡضَىٰ مِنَ ٱلۡقَوۡلِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا يَعۡمَلُونَ مُحِيطًا} [النساء: 108].

ثالثاً ــ يُراد بها النصر والتأييد والتثبيت، كقوله تعالىٰ: {إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّٱلَّذِينَ هُم مُّحۡسِنُونَ} [النحل: 128]. ومن مقتضيات هذه المعية: أنك تراقب الله وتخافه، فتقوم بطاعته، وتترك مناهيه، وتصدق أخباره.

وَأمَّا الأحاديثُ:

1/60 ــ فَالأوَّلُ: عَنْ عُمَرَ بنِ الخطَّابِ رضي الله عنه قال: «بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ، ذَاتَ يَوْمٍ إذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَديدُ بَياضِ الثِّيَابِ، شديدُ سَوَادِ الشَّعْرِ، لا يُرَىٰ عَلَيْهِ أَثرُ السَّفَرِ، وَلا يَعْرِفُهُ منَّا أحَدٌ، حَتَّىٰ جَلَسَ إلَىٰ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فأسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إلَىٰ رُكْبَتَيْهِ، وَوَضَعَ كَفَّيـْهِ عَلَىٰ فَخِذَيْهِ ، وقالَ: يَا مُحَمَّدُ أخْبِرْني عَن الإسْلامِ، فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : الإسْلامُ أنْ تَشْهَدَ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ ، وَأنَّ مُحَمَّداً رسولُ الله، وَتُقيمَ الصَّلاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إنِ اسْتَطَعْتَ إلَيْهِ سَبيلاً، قالَ: صَدَقْتَ، فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْألُهُ وَيُصَدِّقُهُ! قالَ: فَأخْبِرْني عَن الإيمَانِ، قالَ: أنْ تُؤْمِنَ بالله، وَمَلائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، والْيَوْمٍِ الآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ. قالَ: صَدَقْتَ. قالَ: فَأخْبِرْني عَنِ الإحْسَانِ، قالَ: أنْ تَعْبُدَ الله كَأنَّكَ تَرَاهُ ، فإنْ لَمْ تكُنْ تَرَاهُ فإنَّهُ يَرَاكَ. قالَ: فأخْبِرْني عَنِ السَّاعَةِ. قالَ: مَا المسْؤولُ عنهَا بأعْلَم مِن السَّائِلِ، قالَ: فأخْبرْني عَنْ أمَارَاتِهَا، قالَ: أنْ تَلِدَ الأمَةُ رَبَّتَهَا، وَأنْ تَرَىٰ الحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ في الْبُنْيَانِ. ثُمَّ انْطَلَقَ، فَلَبَثْتُ مَلِيّاً، ثُمَّ قال: يا عُمَرُ أتَدْرِي مَنِ السَّائلُ ؟ قلتُ: اللهُ ورسُولُهُ أعْلَمُ، قالَ: فإنَّه جِبْرِيلُ أتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ أمْرَ دِينِكُمْ». رواه مسلم.

وَمَعْنَى: «تَلِدُ الأمَةُ رَبَّتَهَا» أيْ: سَيِّدَتَهَا، ومعناهُ أنْ تكثُرَ السَّرَارِي حَتَىٰ تَلدَ الأمَةُ السرِيَّةُ بِنْتاً لِسَيِّدِهَا، وَبنْتُ السَّيِّدِ في مَعْنَىٰ السيِّدِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذلك. وَ«الْعَالَةُ»: الْفُقَرَاءُ. وقولُهُ: «مَلِياً» أيْ: زَمَناً طويلاً، وَكَانَ ذلك ثَلاثاً.

غريب الحديث:

رعاء الشاء: رعاة الغنم.

هداية الحديث:

1) شهادة التوحيد (لا إله إلا الله محمد رسول الله) هي أعظم ركن في الإسلام، بل عليها يقوم إسلام العبد.

2) علىٰ طالب العلم إذا جلس مَعَ عالِمٍ في مجلس، أن يسأل مسائل تهم الحاضرين، وإن كَانَ يعلم حكمها، من أجل أن ينفع الحاضرين، ويكون معلِّماً لهم.

3) استحضار العبد قرب الله _عز وجل_ منه، وأنه مراقب له، يعلم ما يخفي وما يعلن، إن ذلك يوجب الخشيةَ، والخوف، والهيبة، والتعظيم، في قلبه لله تعالىٰ، ويوجب النصح في العبادة، وبذل الجهد في تحسينها وإتمامها وكمالها.

4) حُسن أدب الصحابة مَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ بِردّ العلم إلىٰ الله تعالىٰ، وإلىٰ رسوله صلى الله عليه وسلم في حياته.

5) السنة النبوية وحي منزَّل، فلا يجوز أن نقلل من منزلتها في التشريع، فإننا مأمورون باتباع الوحيين؛ الكتاب والسنة.

2/61 ــ الثاني: عَنْ أبي ذَرٍّ جُنْدُبِ بْنِ جُنَادَةَ وَأبي عَبْدِ الرَّحْمنِ مُعَاذِ بْنِ جَبَل رضي الله عنهما عَنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأتْبعِ السَّيئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بخُلُقٍ حَسَنٍ». رواه التِّرْمذيُّ، وقال: حديثٌ حسنٌ.

هداية الحديث:

1) لزوم تقوىٰ الله _عز وجل_، وهي من ثمرات مراقبة الله _عز وجل_ في جميع الأقوال والأفعال في السر والعلانية.

2) الحسنات يذهبن السيئات، وهذا من رحمة الله تعالىٰ بعباده.

3) عظيم قدر الأخلاق الحسنة؛ فهي سبيل الفلاح في الدنيا والآخرة. فَلْيجتهدِ المؤمن في تحسين خلقه.

3/62 ــ الثالث: عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قال: كُنْتُ خَلْفَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْماً، فَقَالَ: «يَا غُلامُ إنّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احَفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إذَا سَألْتَ فَاسْألِ اللهَ، وَإذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بالله، وَاعْلَمْ: أنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَىٰ أنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ، لَمْ ينْفَعُوكَ إلَّا بشَيْءٍ قَدْ كَتبَهُ اللهُ لَكَ، وَإنِ اجْتَمَعُوا عَلَىٰ أنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ؟ لَمْ يَضُرُّوكَ إلَّا بشَيْءٍ قَد كَتبَهُ الله عَلَيْكَ. رُفِعَتِ الأقْلامُ، وَجَفَّتِ الصُّحُفُ». رواهُ التِّرْمذيُّ وَقَالَ: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.

وفي روايةِ غيرِ التِّرْمذيِّ: «احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ أمَامَكَ، تَعَرَّفْ إلىٰ الله في الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ في الشِّدَّةِ، وَاعْلَمْ أنَّ مَا أخْطَأكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وَمَا أصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَاعْلَمْ أنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَأنَّ مَعَ الْعُسرِ يُسْراً».

غريب الحديث:

احفظ الله: احفظ دينه بملازمة تقواه؛ وبحفظ حدوده وحقوقه وحفظ حقوق العباد.

رُفعتِ الأقلام، وجفّتِ الصحف: تُركت الكتابة بها لفراغ الأمر، فقد تقدّمت كتابة المقادير كلها.

هداية الحديث:

1) تحريم سؤال غير الله تعالىٰ مما لا يقدر عليه إلا هو، كالرزق والشفاء والمغفرة والنصر وغيرها. فَلْيحرصِ المؤمن علىٰ تصحيح توحيده لله تعالىٰ، بألا يدعو غيره _عز وجل_.

2) العلمُ بعجز الخلائق كلهم وافتقارهم إلىٰ الله تعالىٰ. يدفعُ العبد أن يتعلق بالله وحده لا شريك له، ويقطع العلائق عن الخلائق.

3) لا يستطيع العبد أن يجلب لنفسه نفعاً ولا يدفع عنها ضراً إلا بإذن الله تعالىٰ، وهذا يستلزم من العبد أن يكون لله موحِّداً، به مستعيناً، ولا يعلق قلبه بأحد من المخلوقين، مهما علت مرتبته أو كبر جاهه؛ لأنه ضعيف مثله، مفتقر إلىٰ الله تعالىٰ .

4) مراقبة الله _عز وجل_ وحفظ حدوده في السر والعلانية، يورث صاحبه حفظ الله ورعايته. فالجزاء من جنس العمل.

4/63 ــ الرابع: عَنْ أنَسٍ رضي الله عنه قالَ: «إنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أعْمَالاً هيَ أدَقُّ في أعْيُنِكُمْ مِنَ الشَّعْرِ، كُنَّا نَعُدُّهَا عَلَىٰ عَهْدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم مِنَ الْمُوبِقَاتِ». رواه البخاري، وقال: «الْمُوبِقَاتُ» الْمُهْلِكَاتُ.

5/64 ــ الخامس: عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ اللهَ تَعَالَىٰ يَغَارُ، وَغَيْرَةُ الله تَعَالَىٰ أنْ يَأْتِيَ الْمَرْءُ مَا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ». متفق عَلَيْه.

و«الْغَيْرَةُ»: بفتحِ الغين، وَأصْلُهَا الأنفَةُ.

هداية الأحاديث:

1) الاستخفاف بالذنب يدل علىٰ قلة خشية العبد من الله تعالىٰ، وعلىٰ العكس؛ فاستعظام الذنب يدل علىٰ كمال الخشية، وعظيم المراقبة لله تعالىٰ.

2) يجب علىٰ العبد أن يبتعد عن المعاصي؛ لأنها تسبب غضب الله سبحانه وتعالىٰ.

3) إن مراقبة العبد ربَّه تعالىٰ، والحذر أن يعصيه، هذا من كمال الإيمان.

تنبيـه:

في حديث أنس دليل علىٰ تعظيم الصحابة رضي الله عنهم لحرمات الله، وخوفهم من الذنوب وهذا يدل علىٰ أنهم أعلم الناس بالله تعالىٰ، وأكملهم ورعاً، وأشدهم خشية بعد الأنبياء. فالواجب علىٰ العبد أن يقتدي بهم، وأن يعلم أن فهمهم لكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المعتبر؛ لأنه سبيل المؤمنين، فمن سار علىٰ نهجهم نجا، ومن حاد عن سبيلهم هلك وأهلك.

6/65 ــ السادس: عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أنهُ سَمعَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إنَّ ثَلاثَةً مِنْ بَنِي إسْرَائيلَ: أبْرَصَ، وَأقْرَعَ، وَأعْمَى، أرَادَ اللهُ أنْ يَبْتَلِيَهُمْ، فَبَعَثَ إلَيْهِمْ مَلَكاً، فَأتَىٰ الأبْرَصَ فَقَالَ: أيُّ شَيْءٍ أحَبُّ إلَيْكَ؟ قَالَ: لَوْنٌ حسنٌ، وَجِلْدٌ حَسَنٌ، وَيَذْهَبُ عَنِّي الَّذي قَدْ قَذرَنِي النَّاسُ، فَمَسَحَه، فَذَهَبَ عَنْهُ قَذَرُهُ، وَأُعْطِيَ لَوْناً حَسَناً، قَالَ: فَأيُّ الْمَالِ أحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: الإبلُ ــ أوْ قَالَ الْبَقَرُ ــ شَكَّ الرَّاوِي ـ، فَأُعْطِيَ نَاقَةً عُشَرَاءَ، فَقَالَ: بَارَكَ اللهُ لَكَ فِيهَا.فَأتَىٰ الأقْرَعَ فَقَالَ: أيُّ شَيْءٍ أحَبُّ إلَيْكَ ؟ قال: شَعْرٌ حَسَنٌ، وَيَذْهَبُ عَنِّي هذَا الذي قَذرنِي النَّاسُ، فَمَسَحَهُ، فَذَهَبَ عَنْهُ، وَأُعْطِيَ شَعْراً حَسَناً، قال: فَأيُّ الْمَالِ أحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: الْبقَرُ، فَأُعْطِيَ بَقَرَةً حَامِلاً، وقَالَ: بَارَكَ اللهُ لَكَ فِيهَا.

فَأتَىٰ الأعْمَىٰ فَقَالَ: أيُّ شَيْءٍ أحَبُّ إلَيْكَ ؟ قال: أنْ يَرُدَّ الله إلَيَّ بَصَرِي فَأُبْصِرَ النَّاسَ، فَمَسَحَهُ، فَرَدَّ الله إلَيْهِ بَصَرَهُ، قال: فَأيُّ الْمَالِ أحَبُّ إلَيْكَ؟ قال: الْغَنَمُ، فَأُعْطِيَ شَاةً وَالِداً. فَأنْتَجَ هذَانِ، وَوَلَّدَ هذَا، فَكَانَ لهذَا وَادٍ مِنَ الإبِلِ، وَلهذَا وَادٍ مِنَ الْبقَرِ، وَلِهذَا وَادٍ مِنَ الْغَنَمِ.

ثُمَ إنَّهُ أتَىٰ الأبْرَصَ في صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ، فَقَالَ: رَجُلٌ مِسْكِينٌ قَدِ انْقَطَعَتْ بِيَ الْحِبَالُ في سَفَرِي، فَلا بَلاغَ لِيَ الْيَوْمَ إلَّا بِالله ثُمَّ بِكَ، أسْألُكَ بِالَّذي أعْطَاكَ اللَّوْنَ الْحَسَنَ، وَالْجِلْدَ الْحَسَنَ، وَالْمَالَ بَعِيراً أتَبَلَّغُ بِهِ في سَفَرِي، فقالَ: الحُقُوقُ كَثِيرَةٌ. فقالَ: كأنِّي أعْرِفُكَ، ألمْ تكُنْ أبْرَصَ يقْذرُك النَّاسُ، فَقيراً فَأعْطَاكَ اللهُ!؟ فقالَ: إنَّمَا وَرِثْتُ هذَا المال كَابِراً عَنْ كابِر، فقالَ: إنْ كُنْتَ كَاذِباً فَصَيَّرَكَ اللهُ إلَىٰ ما كُنْتَ.

وَأتَىٰ الأقْرَعَ في صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ، فقالَ لَهُ مِثْلَ ما قَالَ لِهذَا، وَرَدَّ عَلَيْهِ مِثْلَ مَا ردَ هذَا، فقالَ: إنْ كُنْتَ كَاذِباَ فَصَيَّرَكَ اللهُ إلَىٰ مَا كُنْتَ.

وَأتَىٰ الأعْمَىٰ في صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ، فقالَ: رَجُلٌ مِسْكِينٌ وَابْنُ سَبِيلٍ انْقَطَعَتْ بيَ الحِبَالُ في سَفَرِي، فَلا بَلاغَ لِيَ الْيَوْمَ إلَّا بالله ثُمَّ بِكَ، أسْألُكَ بالَّذي رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ شَاةً أتبَلَّغُ بِهَا في سَفَري؟ فقالَ: قَدْ كُنْتُ أعْمَىٰ فَرَدَّ اللهُ إلَيَّ بَصَري، فَخُذْ ما شِئْتَ، وَدَعْ مَا شِئْتَ، فَوَاللهِ ما أجْهَدُكَ الْيَوْمَ بِشَيْءٍ أخَذْتَهُ لله _عز وجل_، فقالَ: أمْسِكْ مالَكَ فإنَّمَا ابْتُلِيتُمْ، فَقَدْ رضِي اللهُ عنك، وَسَخِطَ عَلَىٰ صَاحِبَيْكَ». متفقّ عليه.

«وَالنَّاقَةُ الْعُشَرَاءُ» بِضم العينِ وفتحِ الشينِ وبالمدّ: هِيَ الحامِلُ. قولُهُ: «أنْتَجَ». وفي روايةٍ: «فَنَتَجَ» مَعْنَاهُ: تَوَلَّىٰ نِتَاجَهَا، والنَّاتجُ لِلنَّاقَةِ كالْقَابلَةِ لِلْمَرْأةِ. وقولُهُ «ولَّدَ هذا» هُوَ بِتَشْدِيدِ اللامِ: أيْ: تَوَلَّىٰ ولادَتَهَا، وهُوَ بمَعْنَىٰ نتَجَ في النَّاقَةِ. فالمُوَلِّدُ، والناتجُ، والقَابِلَةُ بمَعْنىً؛ لكِنْ هذَا لِلْحَيَوانِ وذاكَ لِغَيْرِهِ. وقولُهُ: «انْقَطَعَتْ بي الحِبالُ» هُوَ بالحاءِ المهملةِ والباءِ الموحدةِ: أي الأسْبَابُ: وقولُهُ: «لا أجْهَدُكَ» معنَاهُ: لا أشقُّ عليْكَ في رَدِّ شَيْءٍ تَأْخُذُهُ أوْ تَطْلُبُهُ مِنْ مَالِي. وفي روايةِ البخاري: «لا أحْمَدُكَ» بالحاءِ المهملةِ والميمِ، ومعناهُ: لا أحْمَدُكَ بِتَرْكِ شَيْءٍ تَحتاجُ إلَيْهِ، كما قالُوا: لَيْسَ علىٰ طُولِ الحياةِ نَدَمٌ، أيْ عَلَىٰ فَوَاتِ طُولِهَا.

هداية الحديث:

1) إن شكر نعم الله علىٰ العبد من أسباب بقائها، وزيادتها.

2) فضل الصدقة، والحث علىٰ الرفق بالضعفاء، وإكرامهم، وتبليغهم حاجاتهم.

3) البركة إذا حلت في الشيء جعلت القليل كثيراً، وإذا فُقدت من الشيء جعلت الكثير قليلاً.

4) تذكر العبد عظيم نِعَم الله عليه في حواسه وقضاء حوائجه، مما يدفعه إلىٰ تسخير هذه النعم في طاعة الله والتقرب إليه؛ فلا يصرفها لأحد سوىٰ الله تعالىٰ، ولا يعمل بها سوىٰ ما يرضي الله _عز وجل_؛ لأنه المتفضِّل عليه في الدنيا والآخرة.

5) من توفيق الله _عز وجل_ للعبد أن ييسر له العمل الصالح، ويعينه علىٰ فعله ليثيبه عليه، فالعبد محتاج إلىٰ عون الله تعالىٰ قبل الطاعة، وفي حال الطاعة، وبعد أدائها.

7/66ــ السابع: عَنْ أبي يَعْلَىٰ شَدَّادِ بْن أوْسٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «الْكَيِّس مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا، وَتَمَنَّىٰ عَلَىٰ الله». رواه التِّرْمِذيُّ وقال: حديث حَسَن[3].

[3](1) الحديث إسناده ضعيف.

قال التِّرْمذيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ: مَعْنَىٰ «دَانَ نَفْسَه»: حَاسَبَهَا.

غريب الحديث:

الكَيِّس: العاقل الحازم.

دانَ: حاسب.

هداية الحديث:

1) الحث علىٰ اغتنام الفرص فيما يرضي الله _عز وجل_.

2) وجوب الاستعداد لما بعد الموت بالعمل الصالح.

3) الكسل والتهاون والتمني من أسباب ضياع الأعمال في الدنيا والآخرة.

8/67 ــ الثامن: عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : «مِنْ حُسْنِ إسْلامِ الْمَرءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيهِ». حديثٌ حسنٌ رواه التّرْمذيُّ وَغَيْرُهُ.

9/68 ــ التاسع: عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يُسْألُ الرَّجُلُ فيمَ ضرَبَ امرَأتـَهُ». رواه أبو داود وغيره[4].

[4](2) الحديث إسناده ضعيف.

هداية الأحاديث:

1) علىٰ العبد أن يشتغل بما فيه صلاحه ومنفعته في أمور الدنيا والآخرة، ويعرض عما عدا ذلك مما لا يحتاجه بل يضره ويؤذيه، فهذا من حسن إسلام المرء.

2) علىٰ المؤمن مراقبة نفسه في تصرفاته وأقواله وأعماله، ويستشعر بأن الله رقيب عليه، مطلع علىٰ سرائره. فَيحرص ألا يراه الله إلا فيما يرضيه.

فائدة:

ذكر الشيخ المصنف ــ رحمه الله تعالىٰ ــ الحديث الأخير بعد حديث أبي هريرة رضي الله عنه، من باب ضرب المثال في الأمر الذي لا يعني المرء، فمن حُسن إسلام العبد ألا يتدخل بين الرجل وامرأته، فإن ذلك مما لا يعنيه.