أمّا النِّياحةُ فحرامٌ، وسيأتي فيها باب في كتاب النهي ـ إن شاء الله تعالىٰ ـ، وأما البكاء عَلَىٰ الميت فجاءت أحاديث كثيرة بالنهي عَنْه، وأن الميت يُعذَّب ببكاء أهله، وهي متأوَّلةٌ ومحمولة عَلَىٰ من أوصىٰ به، والنهي إنما هُوَ عن البكاء الذي فيه ندب أو نياحة. والدليل عَلَىٰ جواز البكاء بغير ندب ولا نياحة أحاديثُ كثيرةٌ، منها:
1/925ــ عن ابنِ عمرَ رضي الله عنهما أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم عاد سَعْدَ بنَ عبادةَ، ومعهُ عبدُ الرحمن بنُ عَوْفٍ وسعدُ بنُ أبي وقَّاصٍ وعبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ رضي الله عنهم، فبَكَىٰ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، فلمَّا رَأىٰ القومُ بُكاءَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم بكَوْا، فَقَالَ: «ألا تَسْمَعُونَ؟ إنَّ الله لا يُعذِّبُ بدَمع العَيْنِ، ولا بحُزْنِ القَلْبِ، ولكنْ يُعَذِّبُ بهذا أو يَرْحَمُ» وأشارَ إلَىٰ لسانه. متفق عليه.
1) جواز البكاء عَلَىٰ الميت، بشرط ألاّ يكون فيه ندب ولا نياحة.
2) إن رحمة العبد، ورقة قلبه، ودمع عينه، عند المصيبة لا يُلام عليه.
3) الحذر من خطر اللسان، فهو سبب لنيل رضوان الله تعالىٰ أو سخطه.
الندب والنياحة محرَّمان.
فالندب: أن تقوم بتعداد محاسن الميت عَلَىٰ سبيل التّسخّط لقدر الله.
والنياحة: البكاء مَعَ رنّة، وتمطيط للأصوات، وقد برئ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم من النائحة.
2/926ــ وعن أسامةَ بنِ زيدٍ رضي الله عنهما أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رُفعَ إليه ابنُ ابنتِهِ وهو في المَوت، فَفَاضَتْ عَيْنَا رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهُ سعدٌ: ما هذا يا رسولَ الله؟! قَالَ: «هذه رحمةٌ جَعَلَهَا اللهُ تَعَالَىٰ في قُلوبِ عبَادِهِ، وإنَّما يَرْحَمُ اللهُ من عبَادِهِ الرُّحماءَ». متفقٌ عليه.
1) جزاء الله تَعَالَىٰ من جنس عمل العبد «إنما يرحم الله من عباده الرحماء».
2) كلما كان العبد بعباد الله أرحم كان إلىٰ رحمة الله أقرب.
3) الحث علىٰ تزكية النفس وتعويدها رحمةَ مَن هُوَ أهلٌ للرحمة.
3/927ــ وعن أنَس رضي الله عنه أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم دَخلَ عَلَىٰ ابنِهِ إبراهيمَ رضي الله عنه، وهُوَ يجُودُ بنفسِهِ، فجعلَتْ عَيْنا رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَذْرفَان. فَقَالَ لَهُ عبدُ الرّحمنِ بنُ عوفٍ: وأنت يارسولَ الله؟! فَقَالَ: «يا ابنَ عَوْفٍ إنّها رَحْمَةٌ» ثُمَّ أتْبَعَها بأخْرىٰ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ العَيْنَ تَدْمَعُ، والقلبَ يَحْزَنُ، ولا نقول إلَّا ما يُرضي ربَّنا، وإنَّا بفراقكَ يا إبراهيمُ لمَحْزُونُون».
رواه البخاري، وروىٰ مسلم بعضه.
والأحاديث في الباب كثيرة في الصحيح مشهورة، والله أعلم.
يجود بنفسه: ينازع الموت.
1) جواز إخبار الإنسان عن نفسه أنه محزون من هذه المصيبة.
2) إنَّ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، وهو أكرم الخلق عَلَىٰ الله، يلحقه ما يلحق البشر، فيُصاب ويحزن ويمرض.
3) إنَّ العبد ولو كان لَهُ عند الله جاهٌ عظيم، فالموت لا يُدفع عَنْه، فقضاء الله نافذ وحكمه ماضٍ.