اللغات المتاحة للكتاب Indonesia English

14ـ باب الاقتصاد في الطاعة

قال الله تعالىٰ: {طه * مَآ أَنزَلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡقُرۡءَانَ لِتَشۡقَىٰٓ} [طه: 1ــ2]، وقال تعالىٰ: {يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلۡيُسۡرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ ٱلۡعُسۡرَ} [البقرة: 185].

هداية الآيات:

1) الشريعة مبناها علىٰ اليسر، ورفع الحرج عن العباد.

2) الحث علىٰ الاقتصاد؛ وهو أن يكون الإنسان وسطاً بين الغلو والتفريط.

1/142 ــ وعن عائشةَ رضي الله عنها أَن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا امْرَأَةٌ، قال: مَنْ هذِهِ؟ قالت: هذِهِ فُلانَة تَذْكُرُ مِنْ صَلاتِهَا، قالَ: «مهْ، عَلَيْكُمْ بِمَا تُطِيقُونَ، فَوَالله لا يَمَلُّ اللهُ حَتَّىٰ تَمَلُّوا» وَكَانَ أَحَبُّ الدِّينِ إلَيْهِ ما دَاومَ صَاحِبُهُ عَلَيْهِ. متفق عليه.

«وَمَهْ» كَلِمَة نَهْي وَزَجْرٍ. وَمَعْنىٰ «لا يَملُّ الله» أي: لا يَقْطَعُ ثَوَابَهُ عَنْكُمْ وَجَزَاءَ أَعْمَالِكُمْ، وَيُعَامِلُكُمْ مُعَامَلَةَ الْمَالِّ حَتَّىٰ تَمَلُّوا فَتَتْرُكُوا، فَيَنْبَغِي لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مَا تُطِيقُونَ الدَّوَامَ عَلَيْهِ ؛ لِيَدُومَ ثَوَابُهُ لَكُمْ وَفَضْلُه عَلَيْكُمْ.

هداية الحديث:

1) هدي النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم المداومة علىٰ العمل الصالح، وإن قلَّ.

2) الوصية للعِبادِ بلزوم الوسطية وعدم التشديد؛ وذلك بأن يعمل العبادة علىٰ وجه مقتصد، حتىٰ يتمكن من الاستمرار، فإن أحب العمل إلىٰ الله أدومه وإن قلَّ.

2/143 ــ وعن أنسٍ رضي الله عنه قال: جَاءَ ثَلاثَةُ رَهْطٍ إلَىٰ بُيُوتِ أزْوَاجِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، فَلَما أُخْبِرُوا كأنَّهُمْ تَقَالّوهَا وَقالُوا: أيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ؟ قَدْ غُفِرَ لَهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ومَا تَأَخَّرَ. قالَ أَحَدُهُمْ: أمَّا أَنَا فأُصَلِّي اللَّيْلَ أبداً، وَقالَ الآخَرُ: وَأنا أَصُومُ الدَّهْرَ ولا أُفْطِرُ، وَقالَ الآخَرُ: وَأَنا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلا أتَزوَجُ أبَداً، فَجَاءَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلَيْهمْ، فقالَ: « أنْتُمُ الَّذينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا؟! أمَا واللهِ إنِّي لأَخْشَاكُمْ لله، وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي». متفق عليه.

غريب الحديث:

رَهْطٍ: الرهط من الرجال ما دون العشرة ، ولا تكون فيهم امرأة.

تقالّوها: من القلَّة ، أي: وجدها قليلة.

أرقد: أنام.

هداية الحديث:

1) الاقتصاد في العبادة من سنن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم .

2) وصية نبوية في مراعاة الحقوق؛ فلنفس العبد عليه حقٌّ، ولأهله عليه حقٌّ، ولزوجه عليه حق. والموفق من أعطىٰ كل ذي حقٍّ حقَّه.

3) إن خير الهدي هدي النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم . فالسعيد من هُدي إلىٰ اتباع سنته، فعاش ومات علىٰ الهدي النبوي، والشقيُّ المحروم من حُجب عن سنته لجهله، أو لهوىٰ في نفسه، فعاش وأمره فرطاً.

فائدة:

قال النووي ــ رحمه الله تعالىٰ ــ : «إنما يكون القرب إليه سبحانه وتعالىٰ والخشية له علىٰ حسب ما أمر، لا بمخيلات النفوس وتكلف أعمالٍ لم يأمر بها».

(شرح صحيح مسلم).

3/144 ــ وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَال: «هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ» قَالَهَا ثَلاَثاً. رَوَاهُ مُسْلِم.

«الْمُتَنَطِّعُونَ»: الْمُتَعمَقُونَ الْمُتَشَدِّدُونَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ التَّشْدِيدِ.

هداية الحديث:

1) النهي عن التشديد في المسائل الشرعية؛ لما في ذلك من المفاسد والخسارة في الدنيا والآخرة .

2) الوصية بعدم البحث عن أشياء دقيقة ليس لها فائدة، ولزوم البحث عن النافع للعبد في الدنيا والآخرة.

4/145 ــ عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينُ إلا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا، وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ». رَوَاهُ البُخَاري.

وفِي رِوَايةٍ لَهُ: «سَدِّدُوا، وَقَارِبُوا، وَاغْدُوا، وَرُوحُوا، وَشَيْءٌ مِنَ الدُلْجَةِ، الْقَصْدَ الْقَصْدَ تَبْلُغُوا».

قَولْهُ: «الدِّينُ» هُوَ مَرْفُوعٌ عَلَىٰ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُه. وَرُوِيَ مَنْصُوباً، وَرُوِيَ: «لَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ».

وقولُهُ صلى الله عليه وسلم : «إِلَّا غَلَبَهُ»: أيْ: غَلَبَهُ الدِّينُ، وَعَجَزَ ذلِكَ الْمُشَادُّ عَنْ مُقَاوَمَةِ الدينِ لِكَثْرَةِ طُرُقِهِ. «وَالْغَدْوَةُ»: سَيْرُ أَوَّلِ النَّهَارِ. «وَالرَّوْحَةُ»: آخِرُ النَّهَارِ. «وَالدُّلْجَةُ»: آخِرُ اللَّيْلِ. وَهذا اسْتِعَارَةٌ وَتَمْثِيلٌ، وَمَعْنَاهُ: اسْتَعِينُوا عَلَىٰ طَاعَةِ الله _عز وجل_ بالأعْمَالِ فِي وَقْتِ نَشَاطِكُمْ، وَفَرَاغِ قُلُوبِكُمْ؛ بِحَيْثُ تَسْتَلِذُونَ الْعِبَادَةَ وَلا تَسْأَمُونَ، وَتَبْلُغُونَ مَقْصودَكُم، كَمَا أَنَّ الْمُسَافِرَ الْحَاذِقَ يَسِيرُ فِي هذِهِ الأَوْقَاتِ ، وَيَسْتَرِيحُ هُوَ وَدَابَّتُهُ في غَيْرِهَا، فَيَصِلُ الْمَقْصُودَ بِغَيْرِ تَعَبٍ، وَالله أعْلم.

هداية الحديث:

1) إن الهدي الصحيح أن يباشر العبد العبادة علىٰ وجه السداد والإصابة، فإن لم يتيسَّر له ذلك فلْيقارب بعمله السداد والإصابة.

2) حث الشريعة علىٰ العمل، مع البشارة بالثواب الجزيل من الله _عز وجل_.

3) علىٰ العبد أن يدخل السرور علىٰ إخوانه بالبشارة والبشاشة ما استطاع.

4) الاقتصاد في الطاعات مع المداومة، هو الطريق الموصل للفلاح في الدنيا والآخرة.

5) استغلال ميل القلوب وفراغها في طاعة الله _عز وجل_ وعبادته.

5/146ــ وَعَنْ أَنسٍ رضي الله عنه قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَسْجِدَ فَإِذَا حَبْلٌ مَمْدُودٌ بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ، فَقَالَ: «مَا هذَا الْحَبْلُ؟» قَالُوا: هذَا حَبْلٌ لِزَيْنَبَ، فَإِذا فَتَرَتْ تَعَلَّقَتْ بِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : «حُلُّوهُ، لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ، فَإِذَا فَتَرَ فَلْيَرْقُدْ». مُتَّفَقٌ عَلَيْه.

غريب الحديث:

فترت: تعبت.

هداية الحديث:

1) علىٰ المؤمن ألاّ يتعمق ويُكلف نفسه من العبادة ما لا تطيق.

2) استحباب القصد في العبادة، وأن يعمل العبد نشاطه؛ فإن أحب العمل إلىٰ الله تعالىٰ ما داوم عليه صاحبه.

6/147ــ وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ يُصَلِّي، فَلْيَرْقُدْ حَتَّىٰ يَذْهَبَ عَنْهُ النَّوْمُ، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا صَلَّى، وَهُوَ نَاعِسٌ، لا يَدْرِي لَعَلَّهُ يَذْهَبُ يَسْتَغْفِرُ فَيَسُبُّ نَفْسَهُ». مُتَفَقٌ عَلَيْه

غريب الحديث:

ناعس: أصابه النعاس، وهو مقدمة النوم.

هداية الحديث:

1) الحث علىٰ الوسطية في العبادة، أما إذا ألزمَ العبد نفسه العبادة مع المشقة، فإنه يكون قد ظلم نفسه.

2) استحباب العبادة مع النشاط والتدبر، وإعطاء البدن حقه من الراحة.

7/148ــ وَعَنْ أَبِي عَبدِ الله جَابِر بْنِ سَمُرةَ رضي الله عنهما قَالَ: «كُنْتُ أُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الصَّلَوَاتِ، فَكَانَتْ صَلاَتُهُ قَصْداً، وخُطْبَتُهُ قَصداً». رَواهُ مُسْلِم.

قولُهُ: قَصداَ: أَيْ بَيْنَ الطُولِ وَالْقِصَرِ.

هداية الحديث:

1) التوسط في العبادات والقصد فيها من هدي النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم .

2) الحث علىٰ الاقتصاد في وعظ الناس وعدم إملالهم؛ لأن خُطبة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم كانت بين الطول والقصر.

8/149ــ وَعَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ وَهْبِ بْنِ عَبْدِ الله رضي الله عنه قَالَ: آخَىٰ النَّبِيُّ بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبي الدَّرْدَاءِ، فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ، فَرَأَىٰ أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُـتَبَذِّلَةً، فَقَالَ: مَا شَأْنُكِ؟ قَالَتْ: أخُوكَ أبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَه حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا، فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ، فَصَنَعَ لَهُ طَعَاماً، فَقَالَ لَهُ: كُلْ فَإِنِّي صَائِمٌ، قَالَ: مَا أنَا بآكِل حَتَّىٰ تَأْكُلَ، فَأَكَلَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ، فَقَالَ لَهُ: نَمْ، فَنَامَ، ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ، فَقَالَ لَهُ: نَمْ، فَلَمَّا كَانَ مِن آخِرِ اللَّيْل،ِ قَالَ سَلْمَانُ: قُمِ الآنَ، فَصَلَّيَا جَميعاً، فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: إِنَّ لِرَبّكَ عَلَيْكَ حَقّاً، وَإنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقّاً، وَلأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقّاً، فَأعْطِ كُلَّ ذِي حَق حَقَّه، فَأَتَىٰ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ ذلِكَ لَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : «صَدَقَ سَلْمَانُ». رَوَاهُ البُخَارِيّ .

غريب الحديث:

مُتَبذِّلةً: لابسةً ثيابَ المهنة، تاركةً ثيابَ الزينة.

هداية الحديث:

1) كراهة أن يكلف العبد نفسه بالصيام والقيام فوق طاقته.

2) استحباب زيارة المسلم لأخيه المسلم، والسؤال عن حاله، والطمأنينة عليه وعلىٰ أهل بيته.

3) وجوب أداء الحقوق لأهلها، فإن الموفَّق من أعطىٰ كل ذي حقٍّ حقَّه.

9/150 ــ وَعَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ الله بْنِ عَمْرو بْنِ العَاصِ رضي الله عنهما قَالَ: أُخْبِرَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَنِّي أَقُول: وَاللهِ لأَصُومَنَّ النَّهَارَ، وَلأَقُومَنَّ اللَّيْلَ مَا عِشْتُ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم : «أنْتَ الَّذي تَقُول ذلِكَ؟» فَقُلْتُ لَهُ: قَدْ قُلْتُه بِأَبي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ الله. قَالَ: «فَإِنَّكَ لا تَسْتَطِيعَ ذلِكَ؟ فَصُمْ وَأَفْطِرْ، وَنَمْ وَقُمْ، وَصُمْ مِنَ الشَّهْرِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ؛ فَإِنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالَها، وَذلِكَ مِثْلُ صِيَامِ الدَّهْرِ» قُلْتُ: فَإِنِّي أُطيق أَفْضَلَ مِنْ ذلِكَ، قَالَ: «فَصُمْ يَوْماً وَأفْطِر يَوْمَيْنِ»، قُلْتُ: فَإِنِّي أُطيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذلِكَ، قَالَ: «فَصُمْ يَوْماً وَأَفْطِرْ يَوْماً، فَذلِكَ صِيَام دَاوُدَ صلى الله عليه وسلم ، وَهُوَ أعْدَل الصِّيَامِ». وَفِي رِوَاية: «هُوَ أَفْضَلُ الصِّيَامِ» فَقُلْتُ: فَإِنِّي أُطِيقُ أَفْضلَ مِنْ ذلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم : «لا أَفْضَلَ مِنْ ذلِكَ». وَلأنْ أكُونَ قَبلْتُ الثَّلاثَةَ الأيَّامِ الَّتي قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أَحَبُّ إِليَّ مِنْ أَهْلي وَمَالِي. وَفِي رِوَايَةٍ: «ألمْ أُخْبَرْ أَنّكَ تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْل؟» قُلْتُ: بَلَىٰ يَا رَسُولَ الله قَالَ: «فَلا تَفْعَل. صُمْ وَأَفْطِرْ،وَنَمْ وَقُمْ؛ فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقّاً، وَإِنّ لِعَيْنَيْكَ عَلَيْكَ حَقّاً، وَإنّ لزَوْجك عَلَيْكَ حَقّاً، وَإنَّ لزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقّاً، وَإِنَّ بِحَسْبِكَ أَنْ تَصُومَ فِي كُلِّ شَهْرٍ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنَ لَكَ بِكُلَ حَسَنَة عشْرَ أَمْثَالَهَا، فَإِنَّ ذلِكَ صِيَامُ الدَّهْر» فَشَدَّدْتُ فَشُدِّدَ عَلَيَّ، قُلْتُ: يا رَسُولَ الله إِنِّي أجِدُ قُوَّةً، قَالَ: «صُمْ صِيَامَ نَبيِّ الله دَاوُدَ وَلاَ تَزِدْ عَلَيْهِ» قُلْتُ: وَمَا كَانَ صِيَامُ داوُدَ؟ قَالَ: «نِصْفُ الدَّهْرِ» فَكَانَ عَبْدُ الله يَقُول بَعْدَمَا كَبِر:يَا لَيْتَنِي قَبِلْتُ رُخْصَة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم .

وَفِي رِوَايَة: «أَلمْ أُخْبَرْ أنّكَ تَصُومُ الدَهْر، وَتَقْرَأُ الْقُرْآنَ كُلَّ لَيْلَةٍ؟» فَقُلْتُ: بَلَىٰ يَا رَسُولَ الله، وَلَمْ أُرِدْ بِذلِكَ إِلَّا الْخَيْرَ، قَالَ: «فَصُمْ صَوْمَ نَبيِّ الله دَاوُدَ، فَإِنَّهُ كَانَ أَعْبَدَ النَّاسِ، وَاقْرَأ الْقُرْآن في كُلِّ شَهْرٍ». قُلْتُ: يَا نَبِيَّ الله إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذلِكَ؟ قَال: «فَاقْرَأْهُ فِي كُلِّ عِشْرِينَ». قُلْتُ: يَا نَبِيَّ الله إِنِّي أطِيقُ أفضَلَ مِنْ ذلِكَ ؟ قَالَ: «فَاقْرَأْهُ فِي كُلِّ عَشْرٍ» قُلْتُ: يَا نَبِيَّ الله إِنِّي أُطِيق أَفْضَلَ مِنْ ذلِكَ؟ قَالَ: «فَاقْرَأْهُ فِي كُلِّ سَبْعٍ وَلاَ تَزِدْ عَلَىٰ ذلِكَ» فَشَدَّدْتُ فَشُدِّدَ عَلَيَّ، وَقَالَ لي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : «إنَّكَ لاَ تَدرِي لَعَلَكَ يَطُولُ بِكَ عُمُرٌ» قَالَ: فَصِرْت إِلَىٰ الَّذِي قَالَ لِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ، فَلَمَّا كَبِرْتُ وَدِدْتُ أنِّي كُنْت قَبِلْت رخْصَةَ نبيِّ الله صلى الله عليه وسلم .

وفِي رِوَايَةٍ: «وَإنَّ لِوَلَدِكَ عَلَيْكَ حَقّاً» وَفِي رِوَايَةٍ: «لا صَامَ مَنْ صَامَ الأبدَ» ثَلاثاً. وفِي رِوَايَةٍ: «أَحَبُّ الصيَامِ إِلَىٰ الله تَعَالَىٰ صِيَامُ دَاوُدَ، وأَحَبُّ الصَّلاَةِ إِلَىٰ الله تَعَالَىٰ صَلاَةُ دَاوُدَ: كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَيَقُومُ ثُلُثَهُ، وَيَنَامُ سُدُسَهُ، وَكَانَ يَصُومُ يَوْماً وَيُفْطِرُ يَوْماً، وَلاَ يَفِرُّ إِذَا لاقَى».

وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: أَنْكَحَنِي أَبي امْرَأَةً ذَاتَ حَسَبٍ، وَكَانَ يَتَعَاهَدُ كنَّتَهُ ــ أَي: امْرأَةَ وَلَدِهِ ــ فَيَسْأَلُهَا عَنْ بَعْلِها، فَتَقُولُ لَهُ: نِعْمَ الرَّجُلُ مِنْ رَجُل لَمْ يَطَأْ لَنَا فِرَاشاً، وَلَمْ يُفَتِّشْ لَنَا كَنَفاً مُنْذُ أَتَيْنَاهُ، فَلَمَا طَالَ ذلِكَ عَلَيْهِ ذَكَرَ ذلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، فَقَالَ: «ألْقني بِهِ» فَلَقَيْتُهُ بَعْد ذلِكَ، فَقَالَ: «كَيْفَ تَصُومُ؟» قُلتُ: كُلَّ يَوم، قَالَ: «وَكَيْفَ تَخْتِمُ؟» قُلْتُ: كُلَّ لَيْلَةٍ، وَذَكَرَ نَحوَ مَا سَبَقَ، وَكَانَ يَقْرَأُ عَلَىٰ بَعْضِ أَهْلِهِ السبعَ الَذِي يَقرَؤُهُ، يَعْرِضُهُ مِنَ النَّهَارِ لِيَكُونَ أَخَفَّ عَلَيْهِ بِاللَّيْلِ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَقَوَّىٰ أَفْطَرَ أَيَّاماً، وَأَحْصَىٰ وَصَامَ مِثْلَهُنَّ؛ كَرَاهِيَةَ أَنْ يَتْرُكَ شَيْئاً فَارَقَ عَلَيْهِ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم . كُلُّ هذِهِ الرِّوَايَاتِ صَحِيحَةٌ، مُعْظَمُهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَقَلِيلٌ مِنْهَا فِي أَحَدِهِمَا.

غريب الحديث:

بأبي أنت وأمي: أنت مفدَّىٰ بأبي وأمي.

لزورك: لضيفك.

بعلها: زوجها.

لم يطأ لنا فراشاً ولم يفتش لنا كنفاً: عبّرت بذلك عن امتناعه عن الجماع، وأنه لم يقربها، ولم يطلع منها علىٰ ما جرت به عادة الرجل مع زوجته.

هداية الحديث:

1) سعة رحمة الله _عز وجل_؛ بأن جعل الحسنة بعشر أمثالها.

2) كل الكمال والخير في اتباع منهج الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، علماً وعملاً.

3) قليل العبادة الدائم مع موافقة هدي النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم خير من كثيرها المخالف المنقطع.

4) الإسلام دين الوسطية، وشريعة اليسر ورفع الحرج والمشقة.

10/151ــ وَعَنْ أَبِي رِبْعِي حَنْظَلَةَ بْنِ الرَّبِيعِ الأُسَيدِيِّ الْكَاتِب أَحَد كُتَّابِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَقِيَنِي أَبُو بكْرٍ رضي الله عنه، فَقَالَ: كَيْفَ أنْتَ يَا حَنْظَلَةُ؟ قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ، قَالَ: سُبْحَانَ الله مَا تَقُولُ؟! قُلْتُ: نكونُ عِنْدَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم يُذَكِّرُنَا بالْجَنَّةِ وَالنَّارِ كأنَّا رَأْيَ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم عَافَسْنَا الأَزْوَاجَ وَالأَوْلاَدَ والضَّيْعَاتِ نَسينَا كَثِيراً، قَالَ أبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: فَوَالله إنَّا لَنَلْقَىٰ مِثْلَ هذَا، فَانْطَلَقْتُ أَنا وَأبُو بكْرٍ حَتَّىٰ دَخَلْنَا عَلَىٰ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم ، فَقُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ الله، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم : «وَمَا ذَاكَ» ؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله نكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنـَا بالنَّارِ وَالْجَنَّةِ كأنَّا رَأْيَ العَيْنِ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ عَافَسْنَا الأَزْوَاجَ وَالأَوْلاَدَ والضَّيْعَاتِ نَسِينَا كَثِيراً. فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم : «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ تَدُومُونَ عَلَىٰ مَا تكُونُونَ عِنْدِي وَفي الذِّكْرِ، لصَافَحَتكُمُ المَلائِكَةُ عَلَىٰ فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ، وَلكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً» ثَلاثَ مَرَّاتٍ. رَوَاهُ مُسلم.

قَوْلُهُ: «رِبْعِيّ» بِكَسْرِ الرَّاءِ. «وَالأُسَيِّدِي» بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ السِّينِ وَبَعْدَها يَاءٌ مَكْسُورَةٌ مُشدَّدَةٌ.

وَقَوْلُهُ: «عَافَسْنَا» هُوَ بِالْعَيْنِ وَالسِّينِ الْمُهْمَلَتَيْنِ، أَيْ: عَالَجْنَا وَلاَعَبْنَا. «وَالضَّيْعَاتُ»: المعايشُ.

غريب الحديث:

نافق: يعني شابه عَمَلَ المنافقين.

رأي عين: كأنا نرىٰ الجنة والنار بأعيننا من قوة اليقين.

هداية الحديث:

1) حرص الصحابة رضي الله عنهم علىٰ صحة إيمانهم، والخوف من النفاق.

2) فضيلة الذكر؛ فهو من أحب القربات إلىٰ الله _عز وجل_.

3) علىٰ العبد ألا يثقل علىٰ نفسه، بل يحفظ حقوق الله، وحقوق العباد، وأن يعطي كل ذي حقٍّ حقَّه.

4) الترغيب في الجنة، والترهيب من النار، مما يقوي الإيمان في قلب العباد.

11/152ــ وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: بَيْنَمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ إِذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَائِمٍ ، فَسَأَلَ عَنْهُ، فَقَالُوا: أبُو إِسْرَائِيلَ نَذَرَ أَنْ يَقُومَ فِي الشَّمْسِ وَلاَ يَقعُدَ، وَلاَ يَسْتَظِلَّ وَلاَ يَتكَلَّمَ، وَيَصُومَ، فَقَالَ النّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : « مُرُوهُ فَلْيَتكَلَّمْ، وَلْيَسْتَظِلَّ، وَلْيَقْعُدْ، وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ». رَوَاهُ البُخَارِي.

هداية الحديث:

1) لا يقبل الله تعالىٰ عملاً لم يشرعه ولم يأذن به؛ فالعبادات مبناها علىٰ الشرع والاتباع، والنهي عن الابتداع.

2) لا طاعة في نذر المعصية، كأن ينذر أمراً محرماً أو مكروهاً أو لا يستطيع أن يفي به.

3) نذر الطاعة ينبغي أن يتمه الناذر ولا ينقضه (كنذر هذا الصحابي الصيام).

4) النهي عن تكلفة العبد نفسه ما لا تطيق من الأعمال.