اِعْلَمْ أَنَّ الْكَذبَ، وَإنْ كَانَ أَصْلُهُ مُحَرَّماً، فَيَجُوزُ في بَعْضِ الأحْوَالِ بشُرُوطٍ قد أَوْضَحْتُهَا في كتَاب: «الأذْكَارِ»، وَمُخْتَصَرُ ذلك: أَنَّ الكلامَ وسيلةٌ إلىٰ المقاصدِ، فَكُلُّ مَقْصُودٍ مَحْمُودٍ يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ بغَيْرِ الْكَذِبِ يَحْرُمُ الْكَذِبُ فيه، وَإنْ لَمْ يُمْكِنْ تَحْصِيلُهُ إلَّا بالكَذِبِ جاز الْكَذِبُ، ثمَّ إنْ كَانَ تحْصِيلُ ذلك المقْصُودِ مُبَاحاً كَانَ الْكَذِبُ مُباحاً، وَإنْ كانَ وَاجِباً كان الكذِبُ واجِباً. فإذا اخْتَفَىٰ مُسْلمٌ مِن ظالِمٍ يريد قَتْلَه، أَوْ أَخْذَ مالِه، وَأَخْفَىٰ مَالَه، وَسُئِلَ إنْسانٌ عنه، وَجَبَ الْكَذبُ بإخفائِه، وكذَا لو كانَ عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ، وَأَرَادَ ظالِمٌ أَخْذَهَا، وَجَبَ الْكَذِبُ بإخفائها. والأحْوطُ في هذا كُلِّه أَنْ يُوَرِّيَ، ومعْنَىٰ التَوْرِيَةِ: أَنْ يَقْصِدَ بعِبَارَتِهِ مَقْصُوداً صَحِيحاً لَيْسَ هو كاذِباً بالنِّسْبَةِ إلَيْهِ، وإنْ كانَ كاذِباً في ظَاهِرِ اللَّفْظِ، وَبِالنِّسْبَةِ إلىٰ ما يَفْهَمُهُ المُخَاطَبُ، ولَوْ تَرَكَ التَّوْرِيَةَ وَأَطْلَقَ عِبَارَةَ الكَذِبِ، فَلَيْسَ بِحَرَامٍ في هذا الحَالِ.
وَاسْتَدَلَّ الْعُلَمَاءُ لِجَوَازِ الكَذِبِ في هذا الحَالِ بِحَدِيثِ أُمِّ كُلْثُومٍ رضي الله عنها أَنها سمعت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: «لَيْسَ الكَذَّابُ الَّذي يُصلحُ بَيْنَ النَّاسِ، فَيَنْمِي خَيْراً أَو يقولُ خَيْراً». متفقٌ عليه.
زاد مسلم في روايةٍ: قالتْ أُمُّ كُلْثُومٍ: وَلَمْ أَسْمَعْهُ يُرَخِّصُ في شَيْءٍ مِمَّا يَقُولُ النَّاسُ إلَّا في ثلاثٍ، تَعْني: الحَرْبَ، وَالإصْلاحَ بَيْنَ النَّاسِ، وحَدِيثَ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ، وحَدِيثَ المَرْأَةِ زَوْجَهَا.
ينمي: يبلغ.
1) مَن أصلح بين الناس، فأخبر بخلاف الواقع، فإنه لا يسمىٰ كاذباً.
2) الكذب المذموم هو الذي تحصُل به مفسدة ومضرة، والكذب المباح هو الذي جاء وصفه في الشرع، وتحصُل به مصلحة ومنفعة شرعية.