اللغات المتاحة للكتاب Indonesia English

45 ــ باب زيارة أهل الخير ومجالستهم وصحبتهم ومحبتهم

وطلب زيارتهم والدعاء منهم وزيارة المواضع الفاضلة

قال الله تعالىٰ: {وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَىٰهُ لَآ أَبۡرَحُ حَتَّىٰٓ أَبۡلُغَ مَجۡمَعَ ٱلۡبَحۡرَيۡنِ أَوۡ أَمۡضِيَ حُقُبٗا} إلىٰ قوله تعالىٰ: {قَالَ لَهُۥ مُوسَىٰ هَلۡ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰٓ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمۡتَ رُشۡدٗا} [الكهف: 60 ـ 66] ، وقال تعالىٰ: {وَٱصۡبِرۡ نَفۡسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ رَبَّهُم بِٱلۡغَدَوٰةِ وَٱلۡعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجۡهَهُۥ} [الكهف: 28].

هداية الآيات:

1) الحث علىٰ صلة أهل الخير، وهم أهل العلم والإيمان والصلاح.

2) إن صبر النفوس علىٰ مصاحبة أهل الصلاح هي وصية الله تعالىٰ لنبيه صلى الله عليه وسلم.

1/360 ــ وعن أنَسٍ رضي الله عنه قال: قال أبو بَكْر لِعمرَ رضي الله عنهما بَعْدَ وَفَاةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم : انْطَلِقْ بِنَا إلىٰ أُمِّ أَيْمَنَ رضي الله عنها نَزُورُهَا، كَمَا كَانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَزُورُهَا، فَلمَّا انْتَهَيَا إلَيْهَا بَكَتْ، فَقَالاَ لَهَا: مَا يُبْكِيكِ؟ أَمَا تَعْلَمِينَ أَنَّ مَا عِنْدَ الله خَيْرٌ لِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: إنِّي لا أَبْكِي أَنّي لأَعْلَمُ أَنَّ ما عِنْدَ الله تعالىٰ خَيْرٌ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وَلكِنْ أَبْكِي أَنَّ الوَحْيَ قَدِ انْقَطَعَ مِنَ السَّمَاءِ، فَهَيَّجَتْهُمَا عَلَىٰ البُكَاءِ، فَجَعَلاَ يَبْكِيَانِ مَعَهَا. رواه مسلم.

غريب الحديث:

أم أيمن: مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاضنته في طفولته أعتقها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم حين كبر.

فهيجتهما: أثارتهما علىٰ البكاء.

هداية الحديث:

1) تأسي الصحابة رضوان الله عليه بالرسول الله صلى الله عليه وسلم في كل أمر، حتىٰ في تفقُّدِهِ وزيارته لذوي الحقوق.

2) تعظيم الصحابة رضي الله عنهم لشأن الوحي (القرآن والسنة)؛ فهم بكوا لأنه انقطع. فلماذا لا يبكي من أضاعه وهجره؟!

3) إن البكاء حزناً علىٰ فراق الصالحين وانقطاع الخير ليس من النياحة المحرمة.

4) الحث علىٰ زيارة أهل الخير، فهذا من حقوق الأخوة الإيمانية.

2/361 ــ وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: «أنَّ رَجُلاً زَارَ أَخاً لَهُ في قَرْيَةٍ أُخْرَى، فَأَرْصَدَ اللهُ تعالىٰ عَلىٰ مَدْرَجَتِهِ مَلَكاً، فَلَمَّا أَتَىٰ عَلَيْهِ قال: أَيْنَ تُريدُ؟ قال: أُرِيدُ أَخاً لي في هَذِهِ الْقَرْيَةِ، قال: هَلْ لَكَ عَلَيْهِ مِنْ نِعْمَةٍ تَرُبُّهَا عَلَيْهِ ؟ قال: لا، غَيْرَ أنِّي أَحْبَبْتُهُ في الله تعالىٰ، قال: فَإنِّي رَسُولُ الله إلَيْكَ بأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ فِيهِ». رواه مسلم.

يقال: «أَرْصَدَه» لِكَذا: إذَا وَكَّلَهُ بِحِفْظِهِ، وَ«المَدْرَجَةُ» بفتحِ الميمِ والراءِ: الطَّريقُ، ومعنىٰ «تَرُبُّهَا» تَقُومُ بهَا، وَتَسْعَىٰ في صَلاحِهَا.

3/362 ــ وعنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ عَادَ مَرِيضاً أَوْ زَارَ أَخاً لَهُ في الله، نَادَاه مُنَادٍ: بِأَنْ طِبْتَ، وَطَابَ مَمْشَاكَ، وَتَبَوَّأْتَ مِنَ الجَنَّةِ مَنْزِلاً». رواه الترمذي وقال: حديثٌ حسنٌ، وفي بعض النسخ غريبٌ.

هداية الأحاديث:

1) استحباب زيارة الإخوان في الله، فالأخوة الإيمانية فوق روابط الدم والنسب والمصالح.

2) فضيلة الحب في الله، والتزاور فيه، فمَن أحب في الله فقد صدق في محبة مولاه.

3) التزاور في الله سبب لدخول العبد الجنة، ونيل الثواب العظيم.

4) ترغيب الشريعة في كل مايجلب المودة بين الأخوة، كالتواصل والتزاور.

4/363 ــ وعن أبي موسىٰ الأشعَرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّمَا مَثَلُ الجَلِيسِ الصَّالحِ وَجَلِيسِ السُّوءِ كَحَامِلِ المِسْكِ، وَنَافخِ الْكِيرِ؛ فَحَامِلُ المِسْكِ إمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ، وَإمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحاً طَيّبَةً، وَنَافِخُ الكِيرِ، إمَّا أنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ، وَإمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحاً منتِنَةً». متفقٌ عليه.

«يُحْذِيكَ»: يُعْطِيكَ.

غريب الحديث:

الكير: ما ينفخ به الحداد النار.

تبتاع: تشتري.

هداية الحديث:

1) ضرب الأمثال في الأحاديث النبويةمن أساليب التعليم؛ لتقريب المعنىٰ للسامع.

2) النهي عن صحبة أهل السوء والشر؛ فإن مصاحبتهم تُسيءُ في الدين والدنيا.

3) الترغيب في اتخاذ الأصدقاء الصالحين، فمثلهم كبائع الروائح الطيبة لاتجد منهم إلا طيباً.

5/364 ــ وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «تُنْكَحُ المَرْأَةُ لأربَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَلِجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ». متفقٌ عليه.

ومعناه: أَنَّ النَاسَ يَقْصِدُونَ في الْعَادَةِ مِنَ المَرْأَةِ هَذِهِ الخِصَالَ الأَرْبَعَ، فَاحْرِصْ أَنْتَ عَلىٰ ذَاتِ الدِّينِ، وَاظْفَرْ بِها، وَاحْرِصْ عَلىٰ صُحْبَتِهَا.

غريب الحديث:

تربت يداك: هذه الكلمة تقال عند العرب للحث علىٰ الشيء، وهي بمعنىٰ الدعاء له.

هداية الحديث:

1) خير الأمور التي يقصدها الخاطب فيمن يتزوجها هو الدين؛ لأنها تعينه علىٰ دينه، وتحفظ أمانته، وترعىٰ أولاده.

2) أكثر النكاح بركة ماكان مبنياً علىٰ الدين.

6/365 ــ وعن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لِجِبْرِيلَ –عليه السلام_: «مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَزَورَنَا أَكْثَرَ مِمَّا تَزُورَنا ؟» فَنَزَلَتْ: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمۡرِ رَبِّكَۖ لَهُۥ مَا بَيۡنَ أَيۡدِينَا وَمَا خَلۡفَنَا وَمَا بَيۡنَ ذَٰلِكَۚ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّٗا}. رواه البخاري.

هداية الحديث:

1) الترغيب في طلب زيارة أهل الخير إلىٰ بيتك، من أجل أن تنتفع بصحبتهم.

2) محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريلu؛ لأنه يحمل معه الوحي الذي فيه الهدىٰ والنور.

3) الملائكة لاتتصرف ولاتنزل إلا بأمر الله. وهكذا شأن العبد المؤمن؛ لايتصرف في الأمور الشرعية إلا بعد معرفة حكم الله تعالىٰ وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم، ليكون أمرُه تابعاً لأمر الله تعالىٰ وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم.

7/366 ــ وعنْ أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «لا تُصَاحِبْ إلَّا مُؤْمِناً، وَلا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إلَّا تَقيٌّ ».

رواه أبو داود، والترمذي بإسْنَادٍ لا بأس بِهِ.

هداية الحديث:

1) النهي الشديد عن صحبة الكفار والفجار ومودتهم، والنهي عن إكرامهم حتىٰ بالأكل والشرب.

2) الأمر بملازمة الأتقياء من أهل الإيمان ومخالطتهم، فهذه وصية النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم التي يجب حفظها.

8/367 ــ وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه أنّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «الرَّجُلُ عَلىٰ دينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ».

رواه أبو داود، والترمذي بإسنادٍ صحيح، وقال الترمذي: حديثٌ حسنٌ.

غريب الحديث:

الخليل: الصديق والصاحب الخالص.

هداية الحديث:

1) علىٰ العبد أن يصحب الأخيار؛ لأن للخلطة أثراً بيناً في سلوك العبد.

2) المرء يزداد إيمانه بصحبته المؤمنين، وينقص بصحبة الفاسقين، فالصاحب ساحب، إما إلىٰ الخير أو إلىٰ الشر، والمخالطة تورث المشاكلة.

9/368 ــ وعن أبي موسىٰ الأشْعَرِيِّ رضي الله عنه أنّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «المَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ». متفقٌ عليه.

في رواية قال: قِيلَ للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: الرَّجُلُ يُحِبُّ الْقَوْمَ وَلـمَّا يَلْحَقْ بِهِمْ؟ قال: «المَرءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ».

هداية الحديث:

1) علىٰ المسلم أن يحب المتقين ليكون معهم؛ فإن المرء يحشر مع من أحب.

2) الحب في الله طاعة يدرك بها المرء مافاته، أو قَصُر عنه من الطاعات.

3) تفاوت أهل الإيمان في مقامات العبودية، لايمنع أن يلحق المقصر بالسابق؛ لاشتراكهم في أصل المحبة الإيمانية؛ وهي أجل أعمال القلوب .

4) فضل محبة الصالحين، من أهل العلم والدِّين، وعلى رأسهم الصحابة رضي الله عنهم، والسلف السابقين، فبشرىٰ لمن والاهم وأحبهم، والويل لمن عاداهم وأبغضهم.

10/369 ــ وعن أنس رضي الله عنه أن أعرابياً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: مَتَىٰ السَّاعَةُ؟ قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «مَا أَعْدَدْتَ لَهَا ؟» قال: حُبُّ الله ورسولِهِ، قال: «أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ».

متفقٌ عليه، وهذا لفظ مسلم.

وفي روايةٍ لهما: مَا أَعْدَدْتُ لَهَا مِنْ كَثِيرِ صَوْمٍ وَلاَ صَلاةٍ وَلا صَدَقَةٍ، وَلكِنِّي أحِبُّ الله وَرسولَهُ.

11/370 ــ وعن ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه قال: جاءَ رَجُلٌ إلىٰ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسولَ الله، كَيْفَ تَقُولُ في رَجُلٍ أَحَبَّ قَوْماً وَلَمْ يَلْحَقْ بِهِمْ؟ فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «المَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ». متفق عليه.

هداية الأحاديث:

1) الشأن في العبد أن يسأل نفسه ويحاسبها: هل عملتِ؟ هل أنبتِ؟ هل تبتِ؟ فهذا هو المهم، لا أن ينتظر قدوم الموت دون عمل!

2) حكمة رسول الله صلى الله عليه وسلم في إجابة السائل؛ فقد دَلَّه علىٰ الذي يهمه وينجيه، وهو الاستعداد للآخرة بما ينفع.

3) أخفىٰ الله سبحانه علمَ الساعة عن العباد، ليبقىٰ المرء مستعداً متجهزاً للقاء الله {وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسۡلِمُونَ}، فإذا مات العبد قامت ساعته.

4) حبُّ الله وطاعته، وحبُّ رسوله صلى الله عليه وسلم وطاعته، من أفضل القربات، وأكمل الطاعات المنجية للعبد في الدنيا ويوم القيامة.

فائـدة:

في رواية عند البخاري ومسلم: «قال أنس: فإني أحب النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر، وأرجو أن أكون معهم بحُبّي إياهم، وإن لم أعمل بمثل أعمالهم».

قال شيخ الإسلام ابن تيمية ــ رحمه الله تعالىٰ ــ في (لاميته):

حب الصحابة كلهم لي مذهب ومــودة القربىٰ بهـا أتوسـل

ولكلـــهم قــدر عــلا وفضــائل لكنما الصديق منهم أفضل

12/371 ــ وعن أبي هُريرةَ رضي الله عنه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «النَّاسُ مَعَادِنٌ كَمَعَادِنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ؛ خِيَارُهُمْ في الجَاهلِيَّةِ خِيَارُهُمْ في الإِسْلاَمِ إذَا فَقِهُوا، وَالأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجنَّدَةٌ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اختَلَفَ». رواه مسلم.

وروىٰ البخاري قوله: «الأرْوَاحُ» إلخ من رواية عائشة رضي الله عنها.

غريب الحديث:

فقهوا: علموا وصاروا فاهمين عن الله تعالىٰ ورسوله صلى الله عليه وسلم.

هداية الحديث:

1) حث العباد علىٰ السعي في إصلاح النفوس وتكميل ما فيها من الخير.

2) العلم والفقه من أعظم ما يهذب نفوس الناس {قَدۡ أَفۡلَحَ مَن زَكَّىٰهَا}.

3) تتعارف الأرواح بحسب الطباع التي جبلت عليها، ولكن يجب تهذيب النفس؛ لتحب وتألف المؤمنين الصالحين، وتنفر وتفرَّ عن الكافرين والفاسقين.

13/372 ــ وعن أُسَيْرِ بن عَمْرٍو، وَيُقَالُ: ابْنُ جابِر، وهو بضم الهمزةِ وفتحِ السين المهملة، قال: كَانَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رضي الله عنه إذا أَتَىٰ عَلَيْهِ أمْدَادُ أَهْلِ الْيَمن سَأَلَهُمْ: أَفِيكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ؟ حَتَّىٰ أتىٰ عَلىٰ أُوَيْسٍ رضي الله عنه ، فقال له: أَنْتَ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ؟ قال: نَعَمْ، قال: مِنْ مُرَادٍ ثُمَّ مِن قرنٍ؟ قال: نَعَمْ، قال: فَكَانَ بِكَ بَرَصٌ، فَبَرَأْتَ مِنْهُ إلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ ؟ قال: نَعَمْ، قال: لَكَ وَالِدَةٌ ؟ قال: نَعَمْ، قال: سَمِعْت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يَأْتِي عَلَيْكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ مَعَ أَمْدَادِ أَهْلِ اليَمَنِ مِنْ مُرَادٍ، ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ، كَانَ بِهِ بَرَصٌ، فَبَرَأَ مِنْهُ إلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ، لَهُ وَالِدَةٌ هُوَ بِهَا بَرٌّ، لَوْ أَقْسَمَ عَلىٰ الله لأَبَرَّهُ، فَإنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَك فَافْعَلْ» فَاسْتَغْفِرْ لي، فَاسْتَغْفَرَ لَهُ، فَقال له عُمَرُ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قالَ: الْكُوفَةَ، قال: أَلاَ أَكْتُبُ لَكَ إلىٰ عَامِلِهَا؟ قال: أَكُونُ في غَبْرَاءِ النَّاسِ أَحَبُّ إلَيَّ، فلَمَّا كَانَ مِنَ الْعَامِ المُقْبِلِ حَجَّ رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِهِمْ، فَوَافَىٰ عُمَرَ، فَسَأَلَهُ عَنْ أُوَيْسٍ، فقال: تَرَكْتُهُ رَثَّ الْبَيْتِ قَليل المَتَاعِ، قال: سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يَأْتي عَلَيْكُمْ أوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ مَعَ أَمْدَادٍ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ مِنْ مُرادٍ، ثُمَّ مِنْ قُرَنٍ،كَانَ بِهِ بَرَصٌ فَبَرَأَ مِنْهُ إلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ، لَهُ وَالِدَةٌ هُوَ بِهَا بَرٌّ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَىٰ الله لأَبَرَّهُ، فَإنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ» فَأَتَىٰ أُوَيْساً، فقال: اسْتَغْفِرْ لي، قالَ: أَنتَ أحْدَثُ عَهْداً بِسَفَرٍ صَالحٍ، فَاسْتَغْفِرْ لِي، قال: لقِيتَ عُمَرَ؟ قال: نَعَمْ. فَاسْتَغْفَرَ لَهُ، فَفَطِنَ لَهُ النَّاسُ، فَانْطَلَقَ عَلَىٰ وَجْهِهِ. رواه مسلم.

وفي روايةٍ لمسلمٍ أيْضاً عن أسَيْر بن جابر رضي الله عنه أنَّ أهلَ الكُوفَةِ وَفَدُوا عَلَىٰ عُمَرَ رضي الله عنه ، وَفِيهِم رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ يَسْخَرُ بِأُوَيْسٍ، فقال عُمَرُ: هَلْ هاهُنَا أَحَدٌ مِنَ القَرَنِيِّينَ ؟ فَجَاءَ ذلِكَ الرَّجُلُ، فقالَ عُمَرُ: إنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قَد قَال: «إنَّ رَجُلاً يَأْتِيكُمْ مِنَ اليَمَنِ يُقالُ لَهُ: أُوَيْسٌ، لا يَدَعُ بِاليَمَنِ غَيرَ أُمٍّ لَهُ، قَدْ كانَ بِهِ بَيَاضٌ فَدَعَا الله تعالىٰ، فَأَذْهَبَهُ إلَّا مَوْضِعَ الدِّينَارِ أَوِ الدِّرْهَمِ، فَمَنْ لَقِيَهُ مِنكُمْ فَلْيَسْتَغْفِرْ لَكُمْ».

وفي روايةٍ له عن عمر رضي الله عنه قال: إنِّي سَمِعْت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنَّ خَيْرَ التَّابِعِينَ رَجُلٌ يقَالُ لَهُ: أُوَيْسٌ، وَلَهُ وَالِدَةٌ، وكَانَ بِهِ بَيَاضٌ، فَمُروهُ، فَلْيَسْتَغْفِرْ لَكُمْ».

قوله: «غَبراء النَّاس» بِفَتْح الغَيْنَ المُعْجمَةِ وإسْكَان البَاء وبالمدِّ، وهَمْ فُقراؤهم وَصَعَاليكهم ومَن لا يُعْرَفُ عَيْنُه مِنْ أَخلاطِهِمْ، «وِالأَمدادُ » جَمْعُ مَدَدٍ، وهُمُ الأَعْوانُ، والناصرون الذين كانوا يمدُّون المسلمِين في الجهاد.

غريب الحديث:

موضع درهم: مقدار يسير بحجم الدرهم.

لأبرّه: لو حلف علىٰ الله بأمر من الأمور لأبرّ قسمه.

هداية الحديث:

1) فضل أويس بن عامر القرني ــ رحمه الله تعالىٰ ــ ، فهو خير التابعين، كما أن خير الصحابة الصدِّيق أبو بكر رضي الله عنه .

2) طلب الدعاء من الصالحين، وإن كان الطالب أفضل من المطلوب منه. واغتنام دعاء من تُرجىٰ إجابته لعلمه وصلاحه، فهذا من أنواع التوسل الشرعي.

3) برّ الرجل بوالديه سبب لاستجابة الدعاء وتوفيق الله له.

4) تواضع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وحرصه علىٰ الخير، وهو يومئذ خليفة المسلمين. فرحم الله ابن الخطاب ورضي عنه، لقد أتعب مَن جاء بعده!.

14/373 ــ وعن عُمَرَ بنِ الخطَّابِ رضي الله عنه قالَ: اسْتأْذَنْتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم في العُمْرَةِ، فأَذِنَ لِي، وَقَالَ: «لا تَنْسَنَا يَا أُخَيَّ مِنْ دُعَائِكَ» فقال كَلِمَةً مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِي بِهَا الدُّنيا.

وفي روايةٍ قال: «أَشْرِكْنَا يا أُخَيَّ في دُعَائِكَ». حديث صحيح رواه أبو داود، والترمذي وقال: حديثٌ حسنٌ صحيح[6].

[6](1) الحديث إسناده ضعيف.

هداية الحديث:

1) دعاء المسافر مستجاب، فَلْيحرصِ المؤمن علىٰ تحري أوقات إجابة الدعاء.

2) جواز طلب الدعاء من الصالحين إذا قصد الطالب نفع الداعي؛ بأن يكون له مثل دعائه، لما ورد في الحديث: أنّ مَن دعا لأخيه قال له الملك: «ولك مثله».

15/374 ــ وعن ابن عُمَرَ رضي الله عنهما قال: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَزُورُ قُبَاءَ رَاكِباً وَمَاشِياً، فَيُصَلِّي فِيهِ رَكْعَتَيْنِ. متفق عليه.

وفي روايةٍ: كان النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَأتي مَسْجِدَ قُبَاءَ كُلّ سَبْتٍ رَاكِباً وَمَاشِياً، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُهُ.

غريب الحديث:

قباء: هو مسجد قباء في حيٌّ من أحياء المدينة النبوية، يبعد حوالي ثلاثة كيلو متر عن المسجد النبوي، وفيه نزلت الآية: {لَّمَسۡجِدٌ أُسِّسَ عَلَى ٱلتَّقۡوَىٰ مِنۡ أَوَّلِ يَوۡمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِۚ}.

هداية الحديث:

1) استحباب زيارة مسجد قباء اقتداءً بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.

2) حرص عبد الله بن عمر رضي الله عنهما علىٰ التأسي بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وهذا هو شأن الموفَّق من المؤمنين؛ سعيه في الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم.

فائـدة:

ورد في فضيلة مسجد قباء أحاديث، منها ما رواه أبو أمامة قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَطَهَّرَ في بَيتِهِ، ثم أتىٰ مَسجِدَ قباءَ فصلَّىٰ فيه، كان له كَأَجْرِ عُمْرةٍ». رواه أحمد بسند صحيح.

قال الحافظ ابن كثير ــ رحمه الله تعالىٰ ــ في (تفسيره):

«حث الله نبيَّه علىٰ الصلاة في مسجد قباء، الذي أسس من أول يوم بنائه علىٰ التقوىٰ... ولهذا قال: {لَّمَسۡجِدٌ أُسِّسَ عَلَى ٱلتَّقۡوَىٰ مِنۡ أَوَّلِ يَوۡمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِۚ} والسياق إنما هو في معرض مسجد قباء... وقد صرّح بأنه مسجد قباء جماعة من السلف... ولكن ورد في الحديث الصحيح: «أن مسجد رسول الله الذي في جوف المدينة هو المسجد الذي أسس علىٰ التقوىٰ»، وهذا صحيح، ولا منافاة بين الآية وبين هذا؛ لأنه إذا كان مسجد قباء قد أُسس علىٰ التقوىٰ من أول يوم، فمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق الأَوْلىٰ والأَحْرىٰ».