قال الله تعالىٰ: {وَيَخِرُّونَ لِلأَذقَانِ يَبكُونَ وَيَزِيدُهُم خُشُوعا} [الإسراء: 109] ، وقال تعالىٰ: {أَفَمِن هَٰذَا ٱلحَدِيثِ تَعجَبُونَ * وَتَضحَكُونَ وَلَا تَبكُونَ} [النجم: 59 _60].
1) بكاء العبد من خشية الله، سببُه إمّا الخوفُ منه؛ إذا كان بعد معصية أورثت بعداً وطرداً، أو الشوقُ إليه؛ إذا كان بعد طاعة وُفـِّق لها العبد أورثت قرباً وحبّاً.
2) الإنكار علىٰ القاسية قلوبهم، الذين جف دمع عيونهم من قسوة قلوبهم.
1/446 ــ وعَنْ ابن مَسعودٍ رضي الله عنه قالَ: قال لي النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «اقْرَأ عليَّ القُرآنَ» قلتُ: يا رسُولَ الله، أَقْرَأُ عَلَيْكَ، وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ ؟! قالَ: «إنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْري» فقرَأْتُ عليه سورَةَ النِّسَاءِ، حتىٰ جِئْتُ إلىٰ هذِه الآية: {فَكَيفَ إِذَا جِئنَا مِن كُلِّ أُمَّةِ بِشَهِيد وَجِئنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰٓؤُلَآءِ شَهِيدا} [النساء: 41]، قال: «حَسبُكَ الآنَ» فَالْتَفَتُّ إلَيْهِ، فَإذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ. متّفقٌ عليه.
1) الحث علىٰ تدبر القرآن عند تلاوته أو سماعه، فإنه سبب في دمع العين، وخشية القلب، فإن (رِوىٰ القلب ذكر الله فاستسق مقبلاً ... ولا تعدُ روضَ الذاكرين فتُمحِلا).
2) من الأدب النبوي في قراءة القرآن حصول الخشية والدمعة، والله يقول: {لَّقَد كَانَ لَكُم فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسوَةٌ حَسَنَةٞ}.
2/447 ــ وعن أنسٍ رضي الله عنه قالَ: خَطَبَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم خُطْبَةً، ما سَمعتُ مِثْلَها قَطُّ، فقالَ: «لَوْ تَعْلَمُونَ ما أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً، وَلَبَكَيْتُمْ كثيراً»، قال: فَغَطَّىٰ أَصْحَابُ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَجُوهَهُمْ، ولَهُمْ خَنِينٌ. متفقٌ عليه، وسَبَقَ بَيَانُهُ في بابِ الخَوْفِ.
خنين: البكاء مع صوت ضعيف يخرج من الأنف.
1) بيان هدي النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في وعظ الناس، وحثهم علىٰ البكاء من خشية الله تعالىٰ.
2) جهلُ العبدِ وظلمُه سببٌ في عدم البكاء.
3) فضيلة الصحابة رضي الله عنهم في تأثرهم بالموعظة النبوية مباشرة. فأين حال مَن تُتلىٰ عليه الآيات البينات، والأحاديث الزاجرات، ثم لا يتأثر؟! ولربما خشع وبكىٰ من سماع الأناشيد والأبيات!!. فهل إلى إحياء منهج الصحابة في السماع من سبيل؟
في رواية للحديث: «وأوحىٰ الله _عز وجل_ إليه: يا محمد لم تقنط عبادي؟ فرجع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أبشروا وسددوا، وقاربوا».
ففي هذا الحديث: الجمع بين الخوف والرجاء، لأن الخوف وحده يورث القنوط واليأس، والرجاء وحده يورث الكبر والعجب.
3/448 ــ وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «لاَ يَلجُ النَّارَ رَجُلٌ بَكَىٰ مِنْ خَشْيَةِ الله حَتَّىٰ يَعُودَ اللَّبَنُ في الضَّرْعِ، وَلا يَجْتَمِعُ غُبَارٌ في سَبِيلِ الله وَدُخانُ جَهَنَّمَ». رواهُ الترمذي، وقال: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
يلج: يدخل.
1) البكاء من خشية الله تعالىٰ يبعث علىٰ الاستقامة، فيكون وقاية من عذاب النار.
2) إن من علامة صدق الإيمان دمعُ العين من خشية الله تعالىٰ.
4/449 ــ وعنه قالَ: قالَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ الله في ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إلَّا ظِلُّه: إمامٌ عادِلٌ، وشَابٌ نَشَأَ في عِبَادَةِ الله تَعالىٰ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّق في المَسَاجدِ، وَرَجُلانِ تَحَابَّا في الله؛ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ، وتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وجَمَالٍ، فَقَالَ: إنِّي أَخَافُ اللهَ، ورَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفاها، حتَىٰ لاَ تَعْلَمَ شِمالُهُ ما تُنْفِقُ يَمِينُه، ورَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ خَالِياً فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ». متفقٌ عليه.
1) الباكي خشيةً من الله واحدُ سبعةٍ يظلهم الله في ظله.
2) يستحسن للعبد أن يذكر الله خالي القلب مما سوىٰ الله _عز وجل_، خالي الجسم ليس عنده أحد، فيكون بكاؤه خالصاً لله تعالىٰ.
5/450 ــ وعَن عبدِ الله بنِ الشِّخِّيرِ رضي الله عنه قال: أَتَيْتُ رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم وهُوَ يُصَلِّي، ولجوْفِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ المِرْجَلِ مِنَ البُكاءِ. حديث صحيح رواه أبو داود، والتِّرْمذي في الشّمائِلِ بإسنادٍ صحيحٍ.
لجوفه: لصدره وداخله.
أزيز الرجل: صوت القدر وهو يغلي.
1) بيان ماكان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من كمال الخوف، فصوت بكائه دليل علىٰ كمال الخشية لله تعالىٰ.
2) مَن ظهرت عليه أمارات الخشوع مِن غير تكلف فلا حرج عليه، فإن للحسنة نوراً ونضرة في وجوه الطائعين.
6/451 ــ وعن أنسٍ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم لأبيِّ بن كَعْبِ رضي الله عنه: «إنَّ الله _عز وجل_ أَمَرَني أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ: {لَم يَكُنِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ}»، قَالَ: وسَمَّانِي؟ قالَ: «نَعَمْ» فَبَكىٰ أُبَيّ. متفقٌ عليه.
وفي روايةٍ: فَجَعَلَ أُبـَيٌّ يَبْكي.
1) فضيلة الصحابي أُبي بن كعب رضي الله عنه؛ فهو من الراسخين في حفظ القرآن وتلاوته، فقد سمّاه رب العزة تبارك وتعالىٰ.
2) جواز البكاء عند الفرح والسرور وحصول النعم.
3) فضيلة سورة البينة؛ لِـمَا اشتملت عليه من التوحيد، والرسالة، والمعاد، والصحف، والكتب المنزلة علىٰ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وذكر الصلاة والزكاة، والإخلاص، وبيان حال أهل الجنة والنار، ففيها بيان خير الدنيا والآخرة.
7/452 ــ وعنهُ قالَ: قالَ أبو بَكْرٍ لعمرَ رضي الله عنهما بعدَ وفاةِ رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم: انْطَلِقْ بِنا إلىٰ أُمِّ أَيْمَنَ رضي الله عنها نَزُورُها، كما كانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَزُورُها، فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إلَيْهَا بكَتْ، فَقالا لها: ما يُبْكِيكِ؟ أَمَا تَعْلَمينَ أَنَّ ما عِنْدَ الله تَعالىٰ خَيْرٌ لِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم؟ قالَتْ: إنّي لاَ أَبْكِي أَنـِّي لا أَعْلَمُ أَنَّ مَا عِنْدَ الله خَيْرٌ لِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، ولكِنِّي أَبكِي أَنَّ الْوَحْيَ قَدِ انْقَطَعَ مِنَ السَّمَاءِ، فَهَيَّجَتْهُما عَلَىٰ البُكاءِ، فَجَعَلاَ يَبْكِيَانِ مَعَها. رواهُ مسلم. وقد سبق في باب زيارَةِ أهل الخير.
1) رقة قلوب الصحابة رضي الله عنهم، فأدنىٰ شيء من حديث الإيمان يحرك قلوبهم.
2) علىٰ العبد إذا تفقد إخوانه أن يذكر لهم مايحرك إيمانهم، ويكون سبباً في فيض دمعهم من خشية الله تعالىٰ.
8/453 ــ وعن ابنِ عمَر رضي الله عنهما قال: لمَّا اشْتَدَّ بِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَجَعُهُ، قيلَ له في الصَّلاةِ، فقال: «مُرُوا أبَا بكْرٍ فَلْيُصَلِّ بالنّاسِ»، فقالتْ عائشةُ رضي الله عنها: إنَّ أبَا بكْرٍ رَجُلٌ رَقِيقٌ، إذا قَرَأَ القُرآنَ غَلَبَهُ البُكاءُ، فقالَ: «مُرُوهُ فَلْيُصَلِّ». وفي روايةٍ عن عائشَةَ رضي الله عنها قالَتْ: قلتُ: إنَّ أَبَا بَكْرٍ إذا قامَ مَقَامَكَ لَمْ يُسْمعِ النَّاسَ مِنَ البُكاءِ. متفقٌ عليه.
1) صفة أبي بكر رضي الله عنه، لِـمَـا كان عليه من خشية الله _عز وجل_.
2) استحباب رقة القلب والبكاء عند تلاوة القرآن من غير تكلّف.
9/454 ــ وعن إبراهيمَ بنِ عبدِ الرَّحمنِ بنِ عوْفٍ أَنَّ عبدَ الرَحمنِ بنَ عَوْفٍ رضي الله عنه أُتِيَ بطَعامٍ وكانَ صائماً، فقالَ: قُتِلَ مُصعبُ بنُ عُمَيرٍ رضي الله عنه، وَهُوَ خَيْرٌ منِّي، فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ ما يُكَفَّنُ فيهِ، إلَّا بُرْدَةٌ إنْ غُطِّيَ بها رَأْسُهُ بَدَتْ رِجْلاَهُ، وإنْ غُطِّيَ بها رِجْلاهُ بَدَا رأسُهُ، ثُمَّ بُسِطَ لَنَا مِنَ الدُّنْيَا ما بُسِطَ، أَوْ قالَ: أُعْطِينا مِنَ الدُّنْيا مَا أعْطِينَا، وقَدْ خَشِينَا أنْ تكُونَ حَسَنَاتُنا عُجِّلَتْ لَنا، ثُمَّ جَعَلَ يبْكي حتَّىٰ تَرَكَ الطَّعامَ. رواهُ البخاري.
1) استحباب تذكّر سير الصالحين، فهي زاد يوصل إلىٰ طريق الآخرة.
2) علىٰ المرء أن يذكر أصحابه وإخوانه بجميل فعالهم، وحسن مناقبهم، وأن يستغفر لهم، وأن يتجنب ذكر مايسوؤهم.
3) المؤمن ينظر في الطاعة إلىٰ مَنْ هو فوقه، وفي أمور الدنيا إلىٰ مَن هو دونه؛ ليبقىٰ حريصاً علىٰ الإكثار من الطاعة، شاكراً لأنعم الله.
10/455 ــ وعن أبي أُمامةَ صُدَيِّ بنِ عجلانَ الباهليِّ رضي الله عنه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «لَيْسَ شيءٌ أَحَبَّ إلىٰ الله تعالىٰ من قَطْرَتَيْنِ وَأَثَرَيْنِ: قَطْرَةُ دُمُوعٍ من خَشيَةِ الله، وَقَطرَةُ دَمٍ تُهرَاقُ في سَبِيلِ الله. وَأَمَّا الأثرَانِ: فَأَثَرٌ في سَبِيلِ الله تعالىٰ، وَأَثرٌ في فَرِيضَةٍ مِنْ فَرَائِضِ الله تعالىٰ». رواه الترمذي وقال: حديث حسنٌ.
تُهراق: تسيل.
1) البكاء خشيةً من الله تعالىٰ من أحب الأعمال الفاضلة .
2) فضل التقرُّب إلىٰ الله بما افترضه علىٰ عباده، من أجناس الطاعات.
11/456 ــ حديث العرْباضِ بنِ ساريةَ رضي الله عنه، قال: «وَعَظَنَا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مَوْعِظَةً وَجِلَتْ مِنها القُلُوبُ، وَذَرَفَتْ مِنْهَا العُيُونُ». وقد سبق في باب النهي عن البدع.
1) بيان صفة الموعظة؛ أن تكون بليغة مؤثرة، تجلب دمع العيون وخشية القلوب.
2) الكلام المؤثر هو ماخرج من مشكاة الشرع وهدي التنزيل، فدخل القلب.