اللغات المتاحة للكتاب Indonesia English

62 ــ باب الإيثار والمواساة

قال الله تعالىٰ: {وَيُؤثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِم وَلَو كَانَ بِهِم خَصَاصَةٞ} [الحشر: 9]، وقال تعالىٰ: {وَيُطعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ مِسكِينا وَيَتِيما وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8] إلىٰ آخِرِ الآيَاتِ.

فائـدة:

الإيثار: أن يقدم الإنسان غيره علىٰ نفسه.

المواساة: أن يواسي غيره بنفسه، والإيثار أفضل.

الإيثار ينقسم ثلاثة أقسام:

_ القسم الأول: الإيثار الممنوع، وهو: أن تؤثر غيرك بما يجب عليك شرعاً، كالإيثار بالماء عند الحاجة للوضوء.

_ القسم الثاني: الإيثار المكروه، وهو: أن تؤثر غيرك في الأمور المستحبة، كأن تؤثر غيرك بالصف الأول في صلاة الجماعة الذي سبقتَ إليه.

ويرىٰ بعض أهل العلم: أن هذا الإيثار محمود، لأنه داخل في عموم التعاون على البر والتقوىٰ، وهذا الاختيار أحسن وسيأتي بيانه، والله أعلم.

_ القسم الثالث: الإيثار المباح، وهو: أن تؤثر غيرك في الأمور الدنيوية المباحة، كإيثاره بالطعام علىٰ نفسك الجائعة.

وهذا القسم يصبح إيثاراً محموداً، يُثابُ فاعله إذا وقع مع نية الإخلاص لله تعالىٰ.

1/564ــ وعن أبي هُريرةَ رضي الله عنه قال: «جَاءَ رَجُلٌ إلىٰ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: إنِّي مَجْهُودٌ، فَأَرسَلَ إلىٰ بَعضِ نِسائِهِ، فقَالَت: والَّذي بَعَثَكَ بِالحَقِّ ما عِنْدِي إلَّا مَاءٌ، ثم أَرْسَلَ إلىٰ أُخْرَىٰ، فَقَالَتْ مِثْلَ ذلِكَ، حَتَىٰ قُلْنَ كُلُّهُنَّ مِثلَ ذلِكَ: لا والَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ ما عِنْدِي إلَّا مَاءٌ. فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَن يُضِيفُ هذَا اللَّيْلَةَ؟»، فقال رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: أَنا يَا رسُولَ الله، فَانْطَلَقَ بِهِ إلىٰ رَحْلِهِ، فَقَالَ لامرَأَتِهِ: أَكْرِمِي ضَيْفَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم».

وفي روايةٍ «قال لاِمرَأَتِهِ: هل عِنْدَكِ شَيْءٌ؟ فَقَالَتْ: لا، إلَّا قُوتَ صِبيَانِي. قال: عَلِّليْهم بِشَيءٍ، وإذا أَرَادُوا العَشَاءَ فَنَوِّمِيهِم، وإذَا دَخَلَ ضَيْفُنَا، فَأَطْفِئي السِّرَاجَ، وأرِيهِ أَنَّا نَأْكُل، فَقَعَدُوا وَأَكَلَ الضَّيْفُ وَبَاتَا طَاوِيَيْنِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ، غَدَا عَلىٰ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقال: « لَقَد عَجِبَ الله مِن صَنِيعِكُمَا بِضَيْفِكُمَا اللَّيْلَةَ». متفقٌ عليه.

غريب الحديث:

مجهود: أصابني الجهد من الفقر والجوع والمشقة.

فعَلِّلِيهم بشيء: أشغليهم وألهيهم بشيء غير هذا الطعام.

هداية الحديث:

1) الإيثار العظيم من الصحابيّ الأنصاري رضي الله عنه لمّا بات هو وأهله من غير عشاء إكراماً لضيف النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم. فمن هذه المواقف المشرقة نأخذ القدوة الصالحة.

2) يجوز للإنسان أن يؤثر الضيف ونحوه علىٰ عائلته، وهذا في الأحوال العارضة؛ لأن الأَوْلىٰ تقديم الأقرب (ابدأ بنفسك ثم بمن تعول).

فائـدة:

ــ هذه القصة هي سبب نزول قوله تعالىٰ: {وَيُؤثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِم وَلَو كَانَ بِهِم خَصَاصَةٞ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلمُفلِحُونَ}.

ــ قال النووي ــ رحمه الله تعالىٰ ــ : «أجمع العلماء علىٰ فضيلة الإيثار بالطعام ونحوه من أمور الدنيا وحظوظ النفوس، أما القُرُبات فالأفضل أن لا يؤثر بها لأن الحق فيها لله تعالىٰ» (شرح صحيح مسلم).

ويرىٰ بعض أهل العلم جواز الإيثار بالقرب، كما سنذكره عند حديث (761).

2/565ــ وعنه قَالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «طَعَامُ الاثْنَيْنِ كافي الثَّلاثَةِ، وطَعَامُ الثَّلاثَةِ كافي الأربَعَةِ». متفق عليه.

وفي روايةٍ لمسلمٍ عن جابِرٍ رضي الله عنه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «طَعَامُ الوَاحِدِ يَكفِي الاثْنَينِ، وطَعَامُ الاثْنَيْنِ يَكْفي الأَربَعَةَ، وطَعَامُ الأَربَعَةِ يكفي الثَّمَانِيَةَ».

هداية الحديث:

1) الحث علىٰ الإيثار والقناعة بالكفاية.

2) استحباب الاجتماع علىٰ الطعام، لأنه كلما ازداد الجمع ازدادت البركة، فالكفاية تنشأ عن بركة الاجتماع.

3) الترغيب في إطعام الطعام وعدم إحتقار المرء ما عنده ولو قلَّ.

3/566ــ وعن أبي سَعِيدٍ الخُدريِّ رضي الله عنه قال: «بينَمَا نَحْنُ في سَفَرٍ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إذ جاءَ رَجُلٌ عَلىٰ رَاحِلَةٍ لَهُ، فَجَعَلَ يَصرِفُ بَصرَهُ يَمِيناً وَشِمَالاً، فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهرٍ فَليَعُدْ بِه عَلىٰ مَنْ لا ظَهْر لَهُ، وَمَنْ كَانَ لَهُ فَضلٌ مِن زَادٍ فَليَعُدْ بِهِ عَلىٰ مَن لا زَادَ لَهُ، فَذَكَرَ مِن أَصْنافِ المَالِ مَا ذَكَرَ، حَتَىٰ رَأَينَا أَنَّهُ لا حَقَّ لأَحَدٍ مِنَّا في فَضْلٍ». رواه مسلم.

غريب الحديث:

فضل ظهر: مركوب زائد عن حاجته. فليعد به: فليتصدق به.

هداية الحديث:

1) التعاون علىٰ فعل الخيرات، وبذل المال الزائد، والإيثار والمواساة فيهما؛ من صفات المؤمنين.

2) سرعة استجابة الصحابة رضي الله عنهم لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وامتثالهم له. والسعيد مَن كان علىٰ طريقتهم؛ في الإجابة والعمل بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأوامره دون معارضة وتردد، قال تعالىٰ: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَينَهُم ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِيٓ أَنفُسِهِم حَرَجا مِّمَّا قَضَيتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسلِيما}.

4/567 ــ وعن سَهلِ بنِ سعدٍ رضي الله عنه أَنَّ امْرَأَةً جَاءت إلىٰ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بِبُرْدَةٍ مَنْسوجةٍ، فقالت: نَسَجتُها بِيَدَيَّ لأَكْسُوكَها، فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُحتَاجاً إلَيهَا، فَخَرَجَ إلَيْنا وَإنَّهَا لإزَارُهُ، فقال فُلانٌ: اكسُنِيهَا، مَا أَحسَنَها! فَقَالَ: «نَعَمْ»، فَجَلَسَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم في المَجلِسِ، ثُمَّ رَجَعَ فَطَوَاهَا، ثُمَّ أَرسَلَ بِهَا إلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ القَوْمُ: ما أَحسَنتَ! لَبِسَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُحْتَاجاً إِلَيْهَا، ثُمَّ سَأَلْتَهُ، وَعَلِمتَ أنَّهُ لا يَرُدُّ سَائِلاً، فَقَالَ: إنِّي وَالله ما سَأَلْتُهُ لألْبِسَهَا، إنَّمَا سَأَلْتُهُ لِتكُونَ كَفَنِي. قال سَهْلٌ: فَكانت كَفَنَهُ. رواه البخاري.

غريب الحديث:

إزاره: الإزار ما يلبس أسفل البدن.

هداية الحديث:

1) بيان إيثار النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم غيره علىٰ نفسه، وكرمه وسعة جوده ، فقد كان لا يرد سائلاً.

2) مشروعية الإنكار عند مخالفة الأدب ظاهراً.

5/568 ــ وعن أبي موسىٰ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الأَشْعَرِيِّينَ إذَا أَرْمَلُوا في الْغَزْوِ، أَو قَلَّ طَعَام عِيَالِهم بالمَدِينَةِ، جَمَعُوا ما كانَ عِندَهُم في ثَوبٍ وَاحِدٍ، ثمَّ اقتَسَمُوهُ بَيْنَهُم في إنَاءٍ وَاحِدٍ بالسَّوِيَّةِ، فَهُم مِنِّي، وَأَنا مِنهُم». متفقٌ عليه.

«أَرْمَلُوا»: فَرَغَ زَادُهُم، أَو قَارَبَ الفَرَاغَ.

هداية الحديث:

1) إظهار فضل المواساة، وفضيلة خلط الطعام في السفر، وجعله في شيء واحد عند قلته.

2) جواز تحدث الرجل بمناقب قومه، إذا قصد حثَّ الناس علىٰ الاقتداء بهديهم الصالح.

فائدة:

قال بعض العلماء:

«ظاهر الحديث يدل علىٰ جواز الجمعيات المالية الشهرية، التي يفعلها بعض الناس، ليتساعدوا من خلالها علىٰ الخير فيما بينهم، وصورتها:

أن يدفع كلُّ مشتركٍ مبلغاً مالياً يتساوىٰ الجميع في مقداره، ثم يأخذ واحد من المشتركين المبلغ الماليَّ الحاصلَ، ثم في وقت لاحق تعود الكَرَّة ثانيةً، ليأخذ آخرُ من المشتركين الحصة، وهكذا... حتىٰ يأخذ الجميعُ حصصَهم بالتساوي والتتابع.

فهذه الجمعية المالية من الأعمال المشروعة، المأجورة مع حسن النية علىٰ التعاون فيما بينهم، ولأن ذلك ينجي الشخص من الدَّين، أو الأخذ من القروض الربوية، فهذا العمل فيه مصلحة، وليس فيه مفسدة»، والله أعلم.