قالَ الله تعالىٰ: {تِلكَ ٱلدَّارُ ٱلأٓخِرَةُ نَجعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّا فِي ٱلأَرضِ وَلَا فَسَادا وَٱلعَٰقِبَةُ لِلمُتَّقِينَ} [القصص: 83] ، وقال تعالىٰ: {وَلَا تَمشِ فِي ٱلأَرضِ مَرَحًاۖ} [الإسراء: 37] ، وقال تعالىٰ: {وَلَا تُصَعِّر خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمشِ فِي ٱلأَرضِ مَرَحًاۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُختَال فَخُور} [لقمان: 18].
ومعنىٰ «تُصعِّرْ خَدَّكَ للنَّاسِ» أيْ: تَمِيلُه وتعْرِضُ بِهِ عَنِ النَّاسِ تكَبُّراً عَلَيْهِمْ. «والمَرَح»: التَّبَخْتُر. وقال تعالىٰ: {إِنَّ قَٰرُونَ كَانَ مِن قَومِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيهِمۖ وَءَاتَينَٰهُ مِنَ ٱلكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُۥ لَتَنُوٓأُ بِٱلعُصبَةِ أُوْلِي ٱلقُوَّةِ إِذ قَالَ لَهُۥ قَومُهُۥ لَا تَفرَحۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلفَرِحِينَ} [القصص: 76] إلىٰ قوله تعالىٰ: {فَخَسَفنَا بِهِۦ وَبِدَارِهِ ٱلأَرضَ} الآيات.
الكِبر نوعان: كِبر علىٰ الحق، وكِبر علىٰ الخلق، وقد بيّنهما النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في قوله: «الكِبرِ بَطَرُ الحقّ، وغَمْطُ النّاس».
والإعجاب: أن يرىٰ الإنسان عمل نفسه فيفخر به.
1) الدار الآخرة قد اصطفاها الله للذين لا يريدون التعالي علىٰ الحق، ولا التعالي علىٰ الخلق.
2) إن الله تعالىٰ يحب المتواضع الخفيّ النقيّ، ولا يحب المختال في هيئته، والفخور بلسانه وحاله.
3) أعظم الفساد في الأرض إنما يكون بالمعاصي {وَلَا تُفسِدُواْ فِي ٱلأَرضِ بَعدَ إِصلَٰحِهَا}.
1/612 ــ وعن عبدِ الله بن مسعُودٍ رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «لاَ يَدْخُل الجَنَّةَ مَنْ كَانَ في قَلْبهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ»، فقالَ رَجُلٌ: إنَّ الرَّجُلَ يُحبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُه حَسَناً، وَنَعْلُهُ حَسَنَةً، قال: «إنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحبُّ الجَمالَ، الكِبْرُ بَطَرُ الحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ». رواه مسلم.
بَطَرُ الحَقِّ: دَفْعُهُ ورَدُّهُ علىٰ قائِلِهِ، وغَمْطُ النَّاسِ: احْتِقَارُهُمْ.
1) هذا من أحاديث الوعيد، فالمتكبر لا يدخل الجنّة:
إما أن يكون كِبراً عن الحق وكراهة له، فهذا عمل مكفر، وصاحبه مخلَّد في النار ولا يدخل الجنّة، لقوله تعالىٰ: {ذَٰلِكَ بِأَنَّهُم كَرِهُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأَحبَطَ أَعمَٰلَهُم}.
أو أن يكون كِبراً علىٰ الخلق، ولكنه لا يستكبر عن عبادة الله، فهذا لا يدخل الجنّة دخولاً أولياً، بل أمره إلىٰ الله تعالىٰ، إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه.
2) أمارة التواضع خضوع العبد للحق، والانقياد له، والدخول تحت طاعته، لأن من أوضح علامات الكبر دفع الحق إنكاراً، وترفّعاً، وتجبّراً.
2/613 ــ وعنْ سلمةَ بنِ الأكْوعِ رضي الله عنه أنَّ رَجُلاً أَكَلَ عِنْدَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بِشِمَالِهِ، فقالَ: «كُلْ بِيَمِينِكَ»، قالَ: لا أَسْتَطِيعُ، قال: «لا اسْتَطَعْتَ» مَا مَنَعَهُ إلاّ الكِبْرُ. قال: فمَا رَفَعَهَا إلىٰ فيهِ. رواهُ مسلم.
لا استطعت: دعاء عليه بأن الله تعالىٰ يصيبه بأمر لا يستطيع معه رفع يده إلىٰ فمه، لأن التكبر منعه من امتثال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
1) وجوب الأكل والشرب باليمين، ومن أكل أو شرب بشماله عامداً فإنه يكون بذلك قد شابه الشيطان وأولياءه.
2) وجوب إنكار المنكر.
3) إظهار عقوبة من يتعمّد مخالفة السنّة النبوية، ويترك العمل بها تكبّراً.
3/614ــ وعنْ حَارِثَةَ بنِ وهْبٍ رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: «أَلا أخْبِرُكُم بِأَهْلِ النَّارِ؟ كُلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ». متفقٌ عليه. وتقَدَّمَ شرحُه في بابِ ضَعفَةِ المسلمين.
4/615ــ وعن أبي سعيدٍ الخُدريِّ رضي الله عنه، عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «احْتَجَّتِ الجنَّةُ والنَّارُ، فقالتِ النَّارُ: فيَّ الجَبَّارُونَ وَالمُتكَبِّرُونَ، وقالَتِ الجنَّةُ: فيَّ ضُعَفَاءُ النَّاسِ ومَسَاكِينُهُمْ. فَقَضَىٰ الله بَيْنَهُمَا: إنَّكِ الجَنَّةُ رَحْمَتِي، أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ، وَإنَّكِ النَّارُ عَذَابي، أُعَذِّبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ، وَلِكِلَيكُما عَليَّ مِلْؤُهَا». رواه مسلم.
العُتُلّ: الشديد الغليظ، ومنه العَتَلة التي تُحفر بها الأرض، فإنها شديدةٌ غليظة.
الجَوَّاظ: سيئ الخُلُق جداً.
المستكبر: الذي عنده كِبر وغطرسة.
1) أهل الجنّة هم الضعفاء المساكين المتواضعون.
2) وجوب مجانبة صفات أهل النار.
3) الجزاء من جنس العمل؛ فمن تواضع لله أسكنه رحمته، ومن تكبّر وتجبّر توعده عذابه.
5/616ــ وعن أبي هُريرة رضي الله عنه أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يَنْظُرُ الله يَوْمَ القِيَامَةِ إلىٰ مَنْ جَرَّ إزارَهُ بَطَراً». متفقٌ عليه.
إزاره: هو ما يستر به النصف الأسفل من البدن.
بَطَراً: كِبراً.
1) من جرّ ثوبه كِبراً استحق وعيد الله تعالىٰ بألا ينظر إليه يوم القيامة.
2) السنّة في حد طول اللباس: (الإزار أو القميص وهو المعروف بالجلَّابية) من منتصف الساق إلىٰ الكعب، لأن هذا الحد صفة لباس النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأصحابه رضي الله عنهم، وهو دالٌ على تواضع لابسه.
6/617 ــ وعنه قال: قالَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ الله يَوْمَ القِيَامَةِ، وَلا يُزَكِّيهِمْ، وَلا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ، ولَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ: شَيْخٌ زانٍ، وَمَلِكٌ كَذَّابٌ، وَعَائِلٌ مُستكْبِرٌ». رواه مسلم.
« العَائِلُ»: الفَقِير.
ثلاثة: يعني ثلاثة أصناف، وليس المراد ثلاثة نفر، وهكذا حيث جاءت كلمة ثلاثة أو سبعة وما أشبه ذلك.
1) إثبات صفة الكلام لله تعالىٰ.
2) الزنىٰ والكذب والكِبر من الذنوب الكبيرة، والموبقات العظيمة، وهي محرّمة مطلقاً، لكن وقوعها من هذه الأصناف أعظم وأشد.
إذا وقعت المعصية ممن انتفت عنه دواعيها كانت أكبر وأعظم، فالشيخ ليس كالشاب؛ فقد برُدت شهوته، فيُستقبح منه الزنا، والملك لا يحتاج إلىٰ أن يكذب، فكلمته هي المسموعة بين الناس، والفقير المستكبر علىٰ الناس ليس عنده ما يوجب الكِبر، لأن الفقر يوجب للإنسان أن يتواضع، فلأي شيءٍ يستكبر؟!.
7/618 ــ وعنه قال: قَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله _عز وجل_: العِزُّ إزَارِي، والكِبْرِيَاءُ رِدَائي، فَمَن يُنازِعُني عَذَّبْتُه». رواه مسلم.
1) من صفات الله سبحانه العزّة والكبرياء.
2) من نازع الله في صفة من صفاته عذَّبه علىٰ ما صنع؛ لأنه نازع ربّه فيما يختصّ به.
3) الكِبر تجرّؤٌ علىٰ مقام الله، ومن عرف عظمة الله؛ فقبيح أن يتعالىٰ، ومن عرف ضعف نفسه؛ فقبيح أن يتمادىٰ.
8/619 ــ وعَنْه أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشي في حُلَّةٍ تُعْجِبُهُ نَفْسُهُ، مُرَجِّلٌ رَأْسَهُ، يَخْتَال في مِشْيَتِهِ، إذْ خَسَفَ اللهُ بِهِ، فهو يَتَجَلْجَلُ في الأرْضِ إلىٰ يَوْمِ القِيَامَةِ». متفق عليه.
«مُرَجِّلٌ رَأْسَهُ»، أي: مُمَشِّطُهُ. «يَتَجَلْجَلُ» بالجيمَيْن، أيْ: يَغُوصُ وَيَنْزِلُ.
حُلّة: إزار ورداء.
1) تحريم الكِبر وتحريم الإعجاب. فالواجب علىٰ العبد أن يعرف قدر نفسه، وينزلها منزلتها.
2) المبالغة في اللبس والتأنُّق، إذا اقترن مع الفخر والخيلاء، يُدخل في نفس العبد الاختيال والعجب، ويعرّضه لسخط الله تعالىٰ.
9/620 ــ وعن سَلَمَةَ بنِ الأكْوَعِ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «لاَ يَزَالُ الرَّجُلُ يَذْهَبُ بِنَفْسِهِ حَتَّىٰ يُكْتَبَ في الجّبَّارِينَ، فَيُصِيبَهُ مَا أَصَابَهُمْ». رواهُ الترمذي وقالَ: حديث حسن[6].
«يَذْهَبُ بِنَفْسِهِ» أي: يَرْتَفعُ ويَتكَبَّرُ.
1) من تشبّه بقوم حُشر معهم. قال تعالى: {ٱحشُرُواْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزوَٰجَهُم} أي: قرناءهم وأشباههم.
2) علىٰ العبد الناصح لنفسه أن يقطع مداخل الكبر عن قلبه، حتىٰ لا يسترسل مع التَّكبُّر.